الانصراف، في إخلاص وإيمان، شاعراً بأن هذا الفن يجري في دمه، وهو لم يشعر بذلك شابا فقط. وانما هو هم احتواه صبيا فمراهقا. فهو لا يعيش الا من اجله، ولا يفكر الا فيه. وإذا اطمأن اليك مرة فحدثك عنه أدهشك ذلك الحماس الذي ينبعث منه، وتلك النشوة التي يغرق فيها إلى آذانه فتأخذ بلبك وبلبه.
من أجل ذلك كنت أنظر إليه بعين الأمل، ولكن لم يكن أملي فيه محددا بل كان أملاً غامضاً لعل مصدره ما في الشباب من صحة وثورة وتفاؤل، وعلى أي حال لم أكن آمل في نجاحه الا من ناحية الكتابة الفكهة، وقد بعث هذا في نفسي روايته (المرأة الجديدة)، إذ كتبها وهو يقصد عين الجد فإذا به أصاب دعابة لذيذة، وكنت المح في دعابته نوعا من العمق لم اكن متيقنا منه، وانما كنت أحس به وأنا بين المصدق والمكذب.
إلى أن سافرنا منذ ثماني سنوات إلى باريس بعد انتهاءنا من دراسة الليسانس، وكان المقصود من سفرنا دراسة دكتوراه الحقوق وبهرنا عند وصولنا ازدهار الفن والأدب في باريس، وظهر لنا جليا ناطقا محددا ذلك الجانب الروحي والفكري من الحياة الذي حرمنا من نعيمه في مصر، كيف أينعت أزهاره في هذا البلد، كيف كان داني القطوف، عجيب الألوان، شهي الرائحة. ويدرك من يتذوق هذا الجانب من الحياة كيف يحلو الري بعد هذا الظمأ والامتلاء بد طول الطوى. فهل كان من المعقول أن يعيش توفيق الحكيم في باريس وهي مهبط الفن والأدب وأن يمر بهذا الفن والأدب وفي دمه ذلك الحماس، وفي روحه ذلك الخلوص والانصراف فلا ينهل من الفن والأدب الا بقدر ما ينهل الناس لمجرد الغذاء الفكري؟ ما مضت بضعة أشهر على إقامتنا في باريس حتى بدأت انظر إليه بعين ملؤها الاحترام. . . الاحترام الغامض أيضاً.
ذلك أني رأيته وقد انصرف عن اللهو وعما يحصل كل شاب من باريس عادة، عن باريس اللاهية، عن باريس الضاحكة
الماجنة؛ انصرف عن كل هذا بنفس آمنة مطمئنة. وإذا به وأحياء باريس عشرون حياً يبدأ أولها في مركز المدينة وينتهي آخرها بأطرافها يسكن الحي العشرين، وما أظن مصريا قد هبطت قدمه إلى هذا الحي غير توفيق، ومن كان يفكر في زيارته من أصدقائه.
قرأ كتاب تين عن فلسفة الفن فانبثق له من هذا الكتاب قبس من نور فتعلق به وقد شعر