بعد هذا الهزال الطويل، عبل الذراعين بعد هذا الضعف والتهالك.
وهو لا يكتفي بعد ذلك بالتهام الكتب واستيعابها، وانما هو يجعل من قراءاته أداة للتأمل والتفكير. فهو يركن إلى الوحدة في غالب أيامه يهضم فيها ما قرأ، وهو يجلس في قهوة نائية وقد فتح امامه كتابا ذراً للرماد في العيون، ثم يظل يسبح في بحر خياله وهو مغتبط بهذه الوحدة كبير بها، وكأنه قد أدرك قول ابسن:(ان الرجل الوحيد المنفرد هو الرجل القوي).
وكنت دائماً أتلقى ثمرة ذلك التأمل الطويل، فهو يغيب عني أسبوعين او ثلاثة ثم يزورني فاجلس إليه ساعات متوالية لا ينقطع فيها حديثه، وهو دون شك قد اختار موضوع هذا الحديث قبل حضوره. ودون شك كان هذا الموضوع شاغله الوحيد في هذه الأسابيع الماضية، وإذا بي أمام محاضرة طويلة عريضة. . . متشعبة، ولكنها مبوبة تبويبا كاملا، مرتبة ترتيبا بديعا. وإذا لها خاتمة تلم بأغراضه، وإذا بي غارق في نشوة صافية، وإذا أنا أفكر في هذا الموضوع وذاك الحديث، لا في اثناء إنصاتي إليه فقط بل بعد انصرافه عني أيضاً.
أنصرف في حين ما إلى قراءة ما كتب عن قدماء المصريين وعن روحهم العميق، وإذا هو شاعر بمصريته العريقة كيف هي تتمشى في دمه، وإذا هو محدثك عن هذا الروح في فخر وإدراك لا في مجرد زهو ونعرة، وإذا أنت يبهرك هذا الإفضاء ويتملكك نوع من الحماس، وتتكشف لديك آفاق جديدة، وتتحلل في ذهنك ألغاز كنت تحار في تعليلها أو كنت تعللها تعليلا غامضا، وإذا الأمل الذي كان يدب في نفسك دبيبا مبهما في مستقبل مصر وفي روح مصر قد تحدد لديك تحديدا كاملا لأنك تشاهد النور بعد أن حجبه عنك ستار، وتلمس الحقيقة بعد أن كانت وراء حجاب، وتشعر بما في روح مصر من عبقرية خاصة بعد أن أدركت أسبابها فلم يصعب بعد ذلك أن تأمل فيما تؤدي إليه من ثمرات.
وهو لم ينس المسرح (فنه العزيز عليه) في وسط هذا كله، فهو يشاهد التمثيل من الكوميدي إلى الأوديون إلى مسارح البولفار إلى مسارح لا يدركه ملل ولا سأم وهو لا يذهب لمجرد اللذة الفكرية، بل أيضاً للدرس والوعي. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك وتلك النار المقدسة تنفخ في صدره وتوطد من عزمه لا تدركها هوادة ولا خمود!