ويدهشك بعد هذا انه في يوم ما منصرف عن هذا كله، عن قراءاته وعن مسارحه، عن اللوفر ورودان وبقية المتاحف وإذا به يشغله شيء واحد: الموسيقى، ماذا؟ توفيق الحكيم الذي كان يكاد يشترك في تلحين رواياته الموسيقية في مصر، توفيق الحكيم الذي كان مولها بالموسيقى الشرقية غارقا وراء أسرارها يستمع الآن إلى الموسيقى الغربية؟
لقد أدرك معنى، انها إحدى الفنون السبعة فهو الآن منكب على دراستها انكباباً، ولا بأس أن يستعين بأصدقائه الفرنسيين على فهمها، وهو منصرف إلى الأوبرا والأوبرا كوميك وإلى صالات الموسيقى السمفونية، ولا بأس من أن يذهب إلى الأوبرا ولو لم يقتدر الا على أعلى التياترو، ولا بأس من أن يتسلل بلباسه الغريب المتواضع على درج أوبرا باريس الفخمة، ومن بين أزياء المساء الفاخرة ولآلئ الجواهر الثمينة!.
وإذا به يتدرج كالطالب في المدرسة فهو معجب أولاً بسان ساينس وببيزيه وموسيقاهما ذات النغم الشرقي، ثم هو منتقل بعد ذلك إلى الإعجاب ببتهوفن وموسيقاه الرومأنتيكية وهو بعد ذلك مشيد بذكر فاجنر وموسيقاه القوية، وهو أخيراً يستمع إلى موسيقى استرافنسكي وغيره من المحدثين.
سأله أخيراً المكاتب الفني لإحدى الجرائد المصرية عما أوحى إليه بأهل الكهف فكاد ينطلق لسانه بأسم بيتهوفن، وقد قص علي هذه الحادثة فلم أملك نفسي من الابتسام.
ولماذا لم ينطلق لسانك؟
فكان رده الذي كنت أتوقعه والذي من أجله ابتسمت:
- يضحكون مني!
وهو في وسط هذا التموين الهائل الذي كان يمون نفسه به اخذ (ومن ساعة متقدمة) يحاول الإنتاج، فجعل يزاول الكتابة بالفرنسية، فكتب قطعا من الحوار وجعل يعرضها على بعض أصدقائه الفرنسيين، ولم يثن عزمه عن الكتابة إلمامه الابتدائي بالفرنسية، فهو مثابر مجد على رغم ذلك، وهو في النهاية قد عثر على صيغته، وإذا بأصدقائه الفرنسيين يشهدون له بانه في توجيه الحوار واسع الحيلة، وإذا بعضهم يذكر عند قراءته لتوفيق بورثوريس الكاتب الفرنسي الشهير وحواره المقتضب المتماسك.
وكنت أراقب هذا النماء عن قرب مغتبطا به، سعيداً بمشاهدتي هذه الثمرة كيف غرست، ثم