الدقيق قد يضعف إيطاليا ويصيب التوازن الأوربي بضربة شديدة: فإلى هذه العوامل يمكن أن نرجع تطور السياسة الإنكليزية الفجائي. بيد أن هنالك حقيقة لاشك فيها هي أن أكبر الفضل في هذا التطور يرجع إلى تذبذب السياسة الفرنسية وترددها، وإلى ما تبديه من تحيز ظاهر للاعتداء الإيطالي، وما تبديه من فتور ظاهر في تأييد سياسة العقوبات الدولية التي تعتمد عليها إنكلترا في تحطيم مشاريع إيطاليا. وتذبذب السياسة الفرنسية وتحيزها يرجعان إلى عوامل أنانية محضة، فالحكومة الفرنسية الحاضرة تريد أن تحرص على الصداقة الإيطالية بأي ثمن، وأن تحافظ بكل الوسائل على أن تتقاضى تعاون إيطاليا في أوربا ضد ألمانيا وبالأخص في المسألة النمسوية، ثمناً لما بذلته فرنسا لإيطاليا في الاتفاق الفرنسي الإيطالي الأخير (يناير الماضي) من المنح والمزايا السياسية والاستعمارية؛ وهي تحاول في نفس الوقت أن تحتفظ بصداقة إنكلترا ومعاونتها.
على أن هذه السياسة التي انكشفت عواملها الأنانية بسرعة لقيت حتفها في الحال في إنكلترا وفي الحبشة وفي جنيف؛ ومع أن السياسة البريطانية استطاعت بسرعة مدهشة أن تستدرك الخطأ الذي وقع فيه السير هو وزير الخارجية البريطانية بإقراره لمشروع الصلح، واستقال الوزير في الحال ليخلفه مستر إيدن بطل سياسة السلامة الاجتماعية والعقوبات الدولية على يد عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى بطل سياسة التشديد على إيطاليا، فأن هيبة بريطانيا السياسية قد أصيبت بشيء من التصدع والريب؛ ذلك لأنه لم يكن خافياً ما ينطوي عليه مشروع الصلح المقدم إلى جنيف من معنى مستتر، هو تقسيم الحبشة بين إيطاليا وإنكلترا، واختصاص إيطاليا بالقسم الشرقي الذي تحتل قسماً منه، واختصاص إنكلترا (فيما بعد) بالقسم الغربي الذي تقع فيه منابع النيل الأزرق، والذي تحرص كل الحرص على استخلاصه من يد أية دولة أوربية أخرى؛ بيد أن هذا الرجوع السريع الحازم من جانب السياسة البريطانية إلى خطتها الأولى، أعنى خطة الوقوف في وجه إيطاليا ومقاومتها عن طريق العمل الدولي، قد رد إليها كثيراً مما كادت تخسر من هيبة ونفوذ.
على أننا نستطيع أن نستخلص من هذه المأساة الدولية درساً بليغاً يؤيد ما ذهبنا إليه في صدر مقالنا بشأن عصبة الأمم؛ فما كانت العصبة يوماً ملاذاً للعدالة الدولية وحقوق الأمم الضعيفة، ولاسيما الأمم الشرقية، ولن تكون العصبة يوماً ملاذاً حقيقياً لهذه المثل العليا.