في البساطة، إلا أنها على بساطتها فتحت له أبواباً شتى إلى كشوف شتى. ووصفها جَفْكيِ بعدئذ بزمن فقال إنها كانت كالشجرة المباركة، كُثر طرحها، وثقلت به فروعها، فما كان على كوخ إلا أن يهز بجذعٍ فتساقط في حجره بكل جَنيٍ من ثمرها.
لقد قرأت جميع ما كتب كوخ فلم أجد في شيء منها قرينة تدل على أنه عد نفسه يوماً كشافاً كبيراً ومبتكراً ذا بال. وهو لم يستشعر يوماً - كما أستشعر بستور - أنه كان بحق قائداً عظيماً في حربه التي أثارها على المكروب، وقد كانت من أشد الحروب التي أثيرت عليه، ومن أجمل الوقائع التي دبرّها الإنسان لصد غارات الطبيعة ودفع قساواتها. كان هذا الرجل القصير القليل الملتحي لا يطلب إلى الشهرة سبيلاً، ولا يمثل من أجلها في الناس تمثيلاً. ولكنه مع هذا رفع على مسرح الكون ستاراً عن درامة أخذت فصولها تتكشف عن معارك حامية أثارها اللاحقون من العلماء على رسل الموت مترسمين فيها خُطى هذا السبّاق الأول، مخاطرين بأرواحهم إلى حد النزق، وبأرواح سواهم إلى حد الأجرام، كل هذا ليثبتوا أن المكروبات أسباب الأدواء.
ولنضرب مثلاً لهؤلاء رجلاً يدعى الدكتور فِيلَيسِنْ خرج من معمل كوخ، فوجد مكروباً مستديراً كالكرة، وقد تشبث بعضه ببعض فأصبح كحبات السّبحة، فأخذ هذا المكروب من جلد أنتزعه تقويراً من مرضى بداء الحمرة، ثم رّباه، وبناء على نظرية حمقاء تقول إن إصابة من داء الحمرة قد تذهب بداء السّرطان، أطلق صاحبنا البلايين من هذه المكروبات في مرضى مسروطين قلّ الرجاء فيهم، وبعد أيام قلائل التهبت جلود هذه الحيوانات التجريبيّة من بني الإنسان بداء الحمرة وكاد يقضي عليهم قضاء مبرماً، وفاز صاحبنا الأرعن ببرهانه: إن هذه الحبّات السُّبحية سبب داء الحمرة.
ولنضرب مثلاً آخر تلميذاً من تلاميذ كوخ، وبطلاً من الأبطال الذين ذهب بأسمائهم الزمان، وعفى على ذكراهم النسيان، ذلك الدكتور جاريه بمدينة بازل فهذا الرجل سمع بستور يدّعى أن نوعاً آخر خاصاً من المكروب هو سبب الدمامل التي تصيب الإنسان، فما كان منه إلا أن قام إلى أنابيب اختبار ملأى بهذا المكروب فدعك بها ذراعه، فكان جزاءَه خُراجٌ كبير وعشرون دُمّلاً؛ وكان من الجائز أن يذهب ضحية جسارته، ولكنه أحتمل أوجاعه بسن ضاحكة، ووَصف ما لَقَي بأنها تجربة (غير لطيفة)، وصاح اغتباطاً بفوزه