قال: أنا الآن أعلم أن هذه الحبوب العنقودية هي سبب الدمامل والخراجات.
وجاء عام ١٨٨٢ وقارب الختام، وانتهى بانتهائه الخصام الشديد الذي قام بين بستور وكوخ؛ وهو خصام على شدته لم يخل مما يضحك. أما بستور فأنفض يتفرغ بكل حوله إلى غياث الشياه والأبقار الفرنسية مما أصابها. وأما كوخ فأنفض يتشمم كالكلب في آثار مكروب جديد، هو في ذاته سهل القتل سريع الفناء، إلا أنه مع هذا شر المكروبات افتراساً للناس؛ ذلك مكروب الكوليرا. ففي عام ١٨٨٣ جاءت الكوليرا من آسيا تطرق باب أوربا. فرّت من مخابئها في الهند وتسلَّلَت في خفاء عَبْرَ البحار، وجازت الصحراء والرمال إلى مصر، ثم انبثت بعدواها المخيفة في الإسكندرية، وبقيت أوربا تنظر إليها من وراء البحر الأبيض وَجلِة مرتاعة. خيّمت هذه الوافدة الُمنكَرَة على ميناء مصر الحيّة فخفّ نبض الحياة فيها، وعم السكون شوارعها اكتئاباً لفواجع النهار الحاضرة، وارتقاباً لفواجع الليل التي هي لا بد آتية؛ ولم يكن يدري الناس من أمر هذه الوافدة شيئاً، إلا أنها وباء يسترق طريقه خُفيةَ إلى جسم الرجل السليم في الصباح، فإذا أتى العصر التوى تشنجاً وانطوى ألماً، فإذا خيّم الليل تباعد إلى الأبد ما بينه وبين الآلام.
وتنافس كوخ وبستور في كشف مكروب هذه الوافدة التي طلعت نُذُرها حمراء في الأفق البعيد. وما التنافس بين كوخ وبستورإلا تنافس بين ألمانيا وفرنسا. فقام كوخ وصاحبه جَفْكِي عن برلين قاصدين إلى مصر، وحملا معهما مكرسكوبات وحيوانات؛ وكان بستور في شُغْل شاغل يبحث مكروب الكلَب، فأوفد عنه أميل رُو والصموتَ السَّكوت تويّيه وكان أصغر بُحّاث المكروب في أوربا. وعمل كوخ وصاحبه الليل والنهار، فنسيا النوم والطعام، وقاما في حجرات موحشة يقطّعون جثث الموتى من المصريين. وقاما في معمل شديد الحر شديد الرطوبة حتى كاد جوه يتقطر ماء، كما تقطرت أنفاهما عرقاً على مكرسكوباتهما - قاما يحقنان قردة وكلاباً وقططاً ودجاجاً وفئراناً بالمواد الوبيئة التي استخلصاها من جثث الإسكندريين الذين ماتوا من الوافدة قريباً. ولكن بينما الفريقان الألماني والفرنسي يستميتان في طلب هذا المكروب الجديد، إذا بالوافدة تتزايل لغير ما سبب ظاهر، كما كانت جاءت لغير علة معروفة. ولم يكن منهم من تمكن من معرفة شيء عن المكروب المنظور، فنظروا إلى الموت المتراجع نظرة الآسف على فرصة أمكنت ثم