فمه وأبتلعها ابتلاعاً. فأرتاع كل صياد يؤمن بالمكروب، فقد كان في هذه الأنبوبة بلايين من هذه الواوات تكفي لعدوى جيش؛ ولكن الأستاذ تمطى بعد ما شربها استخفافاً وصاح يتحدّى من خلَل لحيته الكثة:(والآن فلنصبر وننظر هل تجيئني الكوليرا كما يزعمون)، وانتظروا ولكن الكوليرا لم تأت لهذا الأستاذ المجنون، ولآي سبب تخلفت؟ لم يعلم أحد عندئذ ولا يعلم أحد إلى الآن من سر هذا شيئاً.
بلغ النزق الجسور بيتنكوفر أن قام بتجربة جاز أن يكون بها قضاؤه، وبلغ كذلك به اليقين بعدها أن زعم أنها قضت له قيما بينه وبين خصومه. فصاح فيهم:(ليس للمكروب شأن في الكوليرا، إنما الشأن لاستعداد الشخص المصاب)، والاستعداد كلمة مبهمة لا مفهوم لمعناها.
فصاح كوخ يجيبه:(لا كوليرا إلا بالبشلات الواوية).
فرد عليه بيتنكوفر:((ولكني بلعت الملايين من بشلاتك القاتلة في زعمك ولم يصبني حتى وجعٌ في بطني).
كان في هذا الحوار، وأسفاه، ما يكون بكل حوار علميّ شديد: كلا الطرفين مصيب بعض الإصابة، وكلاهما مخطئ بعض الخطأ. فقد توالت الأربعون عاماً التي جاءت من بعد كوخ بحوادث كلها تؤيده في قوله إن الناس لا تأتيهم الكوليرا إلا إذا هم بلعو بشلته الواوية؛ وكل السنين التي توالت علمتنا أن تجربة بيتنكوفر ما هي إلا مثل غامض من كثير أَبَت حُجُب المجهول أن تكشف لنا عن تفسيره، حتى في هذا العصر الحاضر الذي نحن فيه عجز بحاث المكروب عن رفع طرف واحد من تلك الحجب الكثيفة، فالمكروبات الفاتكة تملأ الكون، وتنسّل إلى كل مكان، وهي مع ذلك لا تقتل منا إلا بعضنا؛ أما بعضنا الآخر فإنه يقاوم مقاومة تحير عقولنا اليوم كما حيرت عقول الجيل الصاخب في العقد الخامس من القرن الماضي، حين الرجال لا يبالون بالموت في سبيل إثبات ما يدعون أنه الحق؛ فما كان بيتنكوفر هازلاً فيما صنع. وكيف يهزل من مشى إلى الموت حتى صار منه على مدى شبر واحد. وقد بلع غيره من البحّاث على غير عمد مِثل الذي بلع من مكروب الكوليرا وماتوا على أثر ذلك شر ميتة.
وما قاربت أيام كوخ العظيمة تمامها حتى أخذ بستور وأعماله الكبرى تتراءى مرة أخرى ضخمة هائلة، فتلفت الناس والدنيا وتَزُجّ بكوخ وبغيره من البحاث إلى الوراء في رقعة