بحياتها وثعابينها، يتحدر عليها الماء من شعب خفية في الصخور، فكأنه ينضح عن مزن ملئ وسحاب عامر، ثم تغوص هذه البرك مدومة إلى كهوف غائرة، بينما تلتهب هنا وهنالك - على سطح الماء - نيران خاطفة غريبة. (فلو أن قنيصة أنهكها الطراد، وحوم على عنقها الشرك، رأت في أكنافها خلاصاً من موت محقق، لآثرت عليها ذلك الموت، ولوجدت في ورده مشرعاً أعذب من وردها!) وإذا وصلوا في تطوافهم إلى حيث صرع جرندل المارد بالأمس فخضب الماء بدمه، رأوا الصخور تعمر أحجارها بنفر من الجن، وخف بيوولف إلى قوسه فأردى بسهم منها واحداً من هذا النفر - ثم استل سيفه الماضي وغاص بعيدا بعيدا إلى الأعماق في أثر الجن الغائص هرباً. ظل بيوولف على غوصه يوماً كاملاً، حتى إذا قارب القاع أطبقت عليه أم المارد - وكان خلقها وسطاً بين الإنسان والذئب - ثم حملته إلى كهفها، حيث ثار بينهما نضال لم يغن فيه سيفه ولم ينل من لحمها الصفيق العضب، وإنما أجدى عليه كفه الجبار يمسك الجنية فلا تحير منه خلاصاً، وواتته الفرصة فلمح سيفاً حديداً من سيوف المردة، سرعان ما خطفه وأهوى به على رأسها فعزله. وأدار بيوولف بصره فإذا جثة المارد صريع الأمس - لقي لا روح فيها، وبالسيف الذي أودي بالأم فصل به رأس الابن، وسبح بيوولف بالرأسين - مخلفاً وراءه كنوزاً لم يلهه لألاؤها - وما زال يعلو إلى السطح ورأس المارد ينزف دماً، حتى صبغ الماء، وملأ قلوب رفاقه عليه فزعاً، وقد طاف بهم أن دمه هو ذاك الذي خالط الماء ومازجه. وما كان أروع اللقاء وقد برز إليهم سالماً صحيحاً! وحمل الرفاق رأس المارد ورأس أمه وألقوا بهما تحت أقدام الملك، وأستأذنه بيوولف في الرحيل قائلاً:(آن لك أيها الملك أن تهدأ بالاً، وأن يعرف النوم سبيله إلى عيون فرسانك) انقلبت البلاد إلى شعلة من الفرح، وأقلع بيوولف في عصبته إلى جوتلند، تنوء رحالهم بالهدايا، وتسير بذكرهم الركبان.
وأتى حين بعد ذلك سعى فيه عرش جوتلند إلى بيوولف، واعتلى تاجها رأسه، فحكم شعبه خمسين عاما عادلا شجاعا، لا يمل الغزو والجلاد. وكان آخر عهده بهما خروجه لقتال مارد مخيف أقام في كهف من الكهوف يحرس فيه كنزاً نادراً. وفعلت قبضة بيوولف فعلها في المارد فأوردته الردى، إلا أن حر أنفاس الجني أتلفت جسمه، ونفذت إلى دمه فسممته، نتيجة لاشتباكهما في صراع عنيف طويل، واحتواه بعدها فراش السقم حيث غلبه الداء