وكان عالم فرنسي من علماء المشرقيات جاء بلاد المغرب مندوباً من وزارة المعارف الفرنسية لدرس اللهجات العامية المغربية، فلبث في هذه البلاد يبحث ويدرس ويستقرئ، ثم رفع إلى الوزارة تقريراً بالنتائج انتهى إليها في دراسته وأبحاثه، ونشر هذا التقرير وأطلعنا عليه فإذا هو مملوء بالأغاليط والأضاحيك، فقد زعم فيه أن عربياً تونسياً تزوج فتاة عربية من بجاية (الجزائر) فلم يستطع الزوجان أن يتفاهما - لتباعد لغتيهما القوميتين - إلا بالفرنسية التي لم تكن تلم بها الزوجة إلا إلماماً قليلا. والحق أن هذا التقرير هو دعوة صريحة إلى إيجاد فروق بين اللهجات المغربية والى تجسيم ما يكون منها موجوداً بالفعل.
وحدثني ذات يوم فنان فرنسي قال:(كنت أعتقد أنه لا بد أن يأتي يوم على المغاربة يصيرون فيه فرنسيساً خُلصاً من حيث تذوق الفن والشعور بالجمال، غير أني رجعت الآن عن اعتقادي هذا، فقد مضى على فرنسا في الجزائر مائة وبضع سنين لم تستطع أثناءها أن تجعل العرب الجزائريين أن يقبلون على الأفلام الفرنسية، أو يطربون لسماع عازف فرنسي مهما كان محسناً بارعاً، أو يتذوقون غناء فرنسياً مهما كان منسجماً ساحراً يستهوي القلوب ويأسر الألباب، على حين نرى المغاربة جميعاً يقبلون الإقبال الذي لا نظير له على الأفلام المصرية وتستهويهم مصر بأنغامها وأغانيها، ويعجبون الإعجاب كله بالفنانين المصريين). ثم قال (ولقد راعني إقبال هؤلاء الناس على شريط الوردة البيضاء وتهالكهم على مشاهدته، فشاهدته أنا أيضاً، ولكنني لم أجد في هذا الشريط ما يعجبني، على أن جميع من في المسرح كانوا يشاهدون عبد الوهاب وكأنما هو ملك كريم قد هبط إليهم من السماء وينصتون لصوته وكأنما هو نغم إلهي يتنزل عليهم من الملأ الأعلى)
وما من شيء له أثر في حياة المغرب العقلية أو الاجتماعية إلا وهو مصري غالباً فمثلاً كتاب (مختصر قليل) في الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك بن أنس هو كتاب مصري قد جعل أفئدة من الناس في المغرب تهوى إلى مصر، له منزلة سامية في قلوب المغاربة يخصونه بكثير من التقديس والاحترام، ومنهم من يتعبدون بتلاوته كما يتعبدون بتلاوة القرآن الكريم؛ ولم يعد خافياً أمر ذلك الفقيه المرحوم الذي كان يصلي (النافلة) بهذا الكتاب ويقوم به الليل عابداً متهجداً؛ ولا أذيع سراً حيناً أقول أن هذا (المختصر) لا يزال له إلى