للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومضى عام أو دون عام على المعجزة التي جرت على يدي بستور في قرية - حتى أخذ يتضح للناس أن بستور، هذا الصياد الماهر في صيد الميكروب، ليس إلّها معصوماً بل بشراً مخلوقا يخطئ ويصيب. وجاءته كتب عدة تراكمت على مكتبه من مونت بتييه وعشر مدنٍ أخرى في فرنسا، وكذلك من هنغاريا، وكلها تشكو أن الشياه تموت من الجمرة، لا الجمرة الطبيعية المألوفة، ولكن جمرة جاءتها من هذا اللقاح الذي قصد إلى خلاصها، وأنت الأنباء بالسوء من أصقاع أخرى تقص حكايات أخرى عن خيبة هذا اللقاح. ففي بقعة من تلك البقاع اشترى الفلاحون هذا اللقاح، ودفعوا ثمنه نقدا، ولقحوا به قطعانا كاملة من الأغنام، ولما جاء المساء عادوا إلى منازلهم وأراحوا جنوبهم في مضاجعهم وهم يقولون حمدا لله الذي منَّ علينا برجلنا العظيم بستور، ثم طلع الصباح عليهم، فما انفتحت عيونهم حتى وجدوا الحقول قد غطَّتها جثث الشياه النافقة - تلك الشياه التي زعموها حصينة قد ماتت من بزور الجمرة التي تخبَّأت في ثرى هذه الحقول.

وأخذ بستور يكره كل صباح أن يفضّ الكتب التي تأتيه إشفاقاً على نفسه مما كتب كاتبوها، وودَّ لو سدَّ أذنيه فلم يسمع بسخرية الساخر وضحكة الهازئ يأتيه صداها من وراء الأركان. وأخيراً حدث شر ما يحدث له: تقريرٌ خرج من معمل كوخ، تقريرٌ محكمُ في بروده، دقيقٌ في فظاعته، كتبه ذلك الرجل الألماني القصير الخسيس، وفيه نَفى أن يكون للقاح الجمرة لدى التطبيق نفع أبداً. وزاد همَّ بستور علمُهُ أن كوخ أدق صَيادٍ للمكروب في الدنيا.

قطف بستور القطفة الأولى من ثمار تجربته فكانت حلوة طيبة، ثم أتى يقطف القطفة الثانية فأجزعته مرارتها يقيناً. ولكنه، طيَّب الله ثراه، كان شهماً لا يثنيه الحَدَث الجليل. فلم يكن في جِبلَّته أن يعترف للناس أو لنفسه بأن دعاواه العريضة الطويلة ليس لها هذا العرض ولا هذا الطول الذي ادعاه. وكأني بك تسمعه يتمتم لنفسه: (ألم أقل إن هذه الألقحة تُمرض الشياه قليلاً ولا تقتلها، ثم هي بعد ذلك تحصَّنها من الداء تحصيناً تاماً كاملاً. فهو ذاك، فلألزمْ ما قلت فليس عنه من مَحَيد)

ياله من باحث عظيم! ومع هذا فما أقل حظه من تلك الصراحة النبيلة التي نسى فيها سقراط نفسه ذاته، فلم تخدعهما عن الحق المظاهر، ولم تستهوِهِما عنه المنافع. على أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>