للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بما يشبه الإجماع الدولي، وبذلك يتخذ طابعاً دولياً عاماً بدلاً من أن يتخذ طابع الكفاح الشخصي بين دولتين، ويغدو أثره أشد وقعاً وفعلاً.

أما وسائل الكفاح السياسي الذي يضطرم اليوم في أوربا، والذي يراد أن يمهد به للصراع الحربي المقبل، فما زالت تقوم على نفس الأسس التي عرفتها أوربا منذ قرون. وقد مرت عقب انتهاء الحرب الكبرى فترة لاح للعالم فيها أن وسائل الكفاح الدولي القديمة قد عفت، وأن العالم سوف يستقبل عهداً جديداً من الوئام والتفاهم الدولي، وأن المنازعات الدولية يمكن أن تسوى بالوسائل السلمية مثل التحكيم أو الالتجاء لمحكمة دولية عليا؛ وكان للعالم عذره في هذا الاعتقاد وهو يرى عصبة الأمم ومثلها العليا، ومواثيق السلام وعدم الاعتداء يتوالى عقدها منذ ميثاق لوكارنو، ثم يرى ميثاقاً يعقد بتحريم الحرب ونبذها كأداة للسياسة القومية وتنضم إليه أسرة الدول الكبرى كلها؛ ولكن سرعان ما تبدد هذا الحلم، وارتفع الطلاء الخلب الذي كان يغشى هذه المظاهر والدعاوى، وبدت السياسة الدولية في ثوبها الحقيقي القديم، قائمة على نفس الأسس القديمة التي تدفع أوربا ما بين آونة وأخرى إلى معترك الحروب القومية الكبرى.

أما هذه الأسس التي يقوم عليها معترك السياسة الدولية اليوم، فهي اعتبارات السياسة والخصومات والمطامع القومية القديمة، والتوازن الأوربي القديم، الذي يقسم القارة إلى كتل سياسية وعسكرية متشادة متكافئة، لا تكاد تهم إحداها بالتفوق حتى تناهضها أخرى أقوى وأكثر تحفزاً؛ وقد كانت السياسة القومية القديمة تلعب دورها من وراء الستار دائماً حتى إبان ازدهار الدعوة إلى السلام والتفاهم الدولي، أما اليوم وقد اضمحلت هذه الدعوة وانهارت المواثيق السلمية التي عقدت باسمها وفي ظلها، فإن السياسة القومية تسيطر في ميدان النضال بصورة ظاهرة غير منكورة؛ وأوربا القديمة تتجاذبها اليوم عدة جباه سياسية وعسكرية خصيمة؛ وإذا كانت هذه الجباه قد تغيرت أوضاعها عما كانت عليه قبل الحرب الكبرى لتغير في الأوضاع السياسية والجغرافية التي ترتبت على الحرب، فإنها ما زالت تحتفظ في جوهرها بهيكلها القديم؛ فالخصومة الفرنسية الألمانية ما زالت محور التجاذب السياسي والعسكري في أوربا، وحول هذه الخصومة تجتمع القوى المختلفة، فروسيا الشيوعية لأنها تخشى ألمانيا الهتلرية تجنح اليوم إلى الجبهة الفرنسية، بعد أن كانت تجنح

<<  <  ج:
ص:  >  >>