غير إن سياسة الاستعمار لم تستطع الاستمرار على هذه الخطة السلبية ولاسيما في المستعمرات الاستغلالية، لأن المستعمرين وجدوا أنفسهم في تلك المستعمرات في حاجة شديدة إلى الاستعانة بأهل البلاد لاستغلال المرافق الاقتصادية والثروات الطبيعية، وشعروا بضرورة تعليمهم لإعدادهم لتلك الأعمال، ولذلك أخذوا يؤسسون معاهد التعليم في المستعمرات؛ وكان العامل الأساسي لتأسيس هذه المعاهد تخريج طائفة من أهالي المستعمرات يخدمون المستعمر في مصالح الحكومة والشركات؛ وفي المشروعات المختلفة التي تتطلبها مقاصد الاستغلال والاستعمار، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فكر بعض المستعمرين في مسألة التعليم تفكيراً آخر فذهبوا إلى إنه يجب أن يرافق الفتح السياسي فتح معنوي، بحيث يقترب أهالي المستعمرات من المستعمرين إلى أن يندمجوا فيهم اندماجاً، وقد فكروا في سبيل تحقيق هذا الغرض أولاً بنشر لغة المستعمر، وثانياً بتعليم أهالي المستعمرات تعليماً ينشئ في نفوسهم حب المستعمر فيستسلمون له عن طواعية.
وقد برز النوع الأول من سياسة الاستعمار أكثر وضوحاً في الهند في ظل الاستعمار الإنكليزي، كما تجلى النوع الثاني في الجزائر بالاستعمار الفرنسي.
وكان الفرنسيون يأملون من سياستهم هذه تقريب المستعمرين إليهم، وظنوا أنهم بنشرهم لغتهم بينهم وإشرابهم ثقافتهم يغرسون حبهم في قلوب الأهلين، لذلك جعلوا للغة الفرنسية محوراً لكل درس في مناهجهم، وقالوا بصراحة إن المدرسة يجب أن تكون قبل كل شيء معهداً لتعليم اللغة الفرنسية، وكذلك اهتموا بمناهج الأخلاق في المدارس لتعليم أولاد المستعمرات كل ما يحبب الأهلين في الفرنسيين، فنجد في مناهج الأخلاق في مدارس الجزائر مثلا قسماً خاصاً في واجبات الأهلين نحو فرنسا، يشغل حيزا مهماً بين الواجبات الأساسية كالواجبات نحو الله، والواجبات نحو الناس. ومما جاء في هذا المنهج (ما يترتب على أهل الجزائر من الواجبات نحو فرنسا، مقابل الحماية التي تسديها إليهم والعدل الذي أدخلته إلى بلادهم، والأمن الذي نشرته في ربوعهم، ونعم التعليم والحضارة التي أغدقتها عليهم. . . الاحترام الذي يجب أن يشعروا به نحو من يدير البلاد باسم فرنسا، والاحترام الذي يجب أن يظهروه نحو العلم الفرنسي)