وكان طرفه حائرا بين البحر وهذه الفنادق الضخمة المشيدة، وهؤلاء الرجال والنساء الذين كانوا يذهبون ويجيئون في هذه الطريق وقد اتخذوا للرياضة والشاي زينتهما. لكنها لم تتح له الاستمتاع بهذه الحيرة، فما أسرع ما ردته إلى مصر وحديثها، وعادت تسأله عن المصريين كيف تركهم. قال ولم يخف شيئا من الضجر الباسم العابث تركتهم من خمسة أيام كما تركتهم أنت منذ عشرة أيام، وكما سيتركهم كل مسافر ويلقاهم كل عائد، وكما يترك كل رجل من الناس أي جيل من الأجيال، تركتهم قوما كراما يكرمون آبائهم وأمهاتهم، ويؤثرون أبنائهم وبناتهم، ويشفقون من الآلام، ويسرعون الى اللذات، ويكثرون القول، ويقصدون في العمل، ويفرون من الدور، ويستقرون في الأندية، ويطيلون الحوار في الأدب والسياسة، ويقرءون الصحف ويعبثون بكتابها. . . قالت ياله من سيل جامح لا يقف ولا يهدأ ولا يتئد، ولا يتخير ما يحمل، ما عن هذا أسألك، وما طلبت إليك أن تصور لي المصريين كما تراهم أنت بهذا الرأي المظلم القاتم، الذي لا يعجب بشيء ولا يرضى عن شيء، بل ينكر كل شيء، إنما سألتك. . . قال ياله من جدول هادئ متئد، عذب ظريف، لا يحمل غثاء ولا جنادل، وإنما هو صافي الصفحة نقي الأديم، كله رضى وكله ابتهاج، وكله أمل، إنما تسألينني عن الأدباء أليس هذا ما كنت تريدين، قالت هو هذا، ومتى رأيتني أتحدث إليك عن غير الأدباء؟ قال فقد تركت الأدباء في شغل شاغل وهم مقيم، يقولون فيطيلون، ويعملون فلا يبلون، وكأنهم هذا القطار الذي يهم بالحركة فيكثر فيه الضجيج والعجيج والقعقعة والاضطراب، وهو ثابت في مكانه لا يريم، لأن الله لم يأذن له بالحركة بعد، أو لأن أداة من أيسر أدواته لم يتح لها أن تشترك في العمل مع أخواتها، قالت وما ذاك؟ قال انهم يذكرون حافظاً، فقد دار العام على وفاته، ولم يصنع له أحد شيئا. فهم يلومون أنفسهم وهم يلومون غيرهم، وهم يلومون مصر كلها، يلومون الشعب لأنه قصر غير عامد، ويلومون الحكومة لأنها تعمدت التقصير، حتى إذا أسرفوا في اللوم وأعياهم الإسراف عزوا أنفسهم وعزوا الشعب الذي قصر عن غير عمد، والحكومة التي قصرت عن عمد بأن حافظا كان أديبا حقا، فلا غرابة في أن تدركه حرفة الأدب. وقد كان حافظ رحمه الله حسن الحظ، ميسرا له في الأمر بالقياس الى زميله في حرفة الأدب منذ اكثر من ألف سنة. فأنت تذكرين أنها قد أدركت ابن المعتز فانتزعته من الخلافة، ولما يقم فيها يوما