للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولم يكفها أن تنتزعه من الخلافة، فانتزعته من الحياة على شر الأحوال واشدها نكرا، ما حافظ فقد كان بائسا في حياته لم يعرف النعيم، والبؤس أيسر من الخلع، والبؤس الدائم أيسر من البؤس الطارئ، بعد طول النعمة وحسن الحال، وقد مات حافظ على فراشه، والموت الهادئ أيسر من الموت العنيف، وحافظ بائس بعد موته لم يجتمع له الناس، ولم تمتلئله الأوبرا، ولم تلق فيه الخطب المدبجة. ولا القصائد المنمقة. وقبر حافظ مجهول أو كالمجهول ولكن هذا البؤس كله ليس شيئا بالقياس الى بؤس آخر أشد وأمض، وهو هذا الثناء المتكلف، وهذا الإكبار المصنوع، وهذه الخطب والقصائد التي لا يراد بها وجه الله، ولا وجه من قيلت فيه، وإنما يراد بها وجه الذين يصرفون السياسة ويسيرون أمور الناس كما يحبون، والى حيث يحبون، فقد كان حافظ ومازال بائسا، وكان حافظ ومازال شقيا، ولكن شقاء حافظ سعادة، وبؤس حافظ نعيم، وما كان أحق شوقي رحمه الله واجدره، بأن يشارك حافظا في هذا البؤس المجيد، فقد كان شوقي كما كان حافظ مجداً لمصر وللشرق وللأدب العربي؛ ولكن السياسة استأثرت بشوقي فازدردته ازدرادا. وعجزت عن أن تستأثر بحافظ، وأي غرابة في هذا؟ لقد كان شوقي رحمه الله هينا لينا رفيقا رقيقا، وكانت في حافظ صلابة الشعب وغلظته، وخشونة الشعب وشدته.

قالت وهي محزونة: ولكن بؤس حافظ مهما يكن مجيدا بالقياس إليه فهو عار على مصر، ومن حق مصر لنفسها أن تكشف هذا العار، وكانا قد بلغا ناديا من هذه الأندية التي يكون فيها الرقصمع المساء والتي يؤخذ فيها الشاي، فاتخذا مكانا منزويا فيه دون أن يتفقا على ذلك، إنما هي رغبتهما في اتصال الحديث، وزهدهما في هذا المتاع الذي يتهالك عليه الناس، ولم ينقطع حديثهما وقتا طويلا إنما هي لحظة طلبا فيها الى الخادم ما كانا يريدان، ثم اتصل بينهما الحديث، ولكنه لم يمس أمير الشعراء ولا شاعر النيل. قال ومع ذلك فلم تسأليني عن مصر والمصريين وأنت ترين مصر وأدباءهافي فرنسا كأحسن ما تحبين أن تريهم؟ قالت في فرنسا؟ وأين ذاك؟ قال ماذا تصنعين إذن منذ تركت السفينة؟ ألا تقرئين؟ قالت لا. قال بل تكتبين، وقد كان ينبغي أن أفهم هذا، ولعلى قد فهمته حين رأيت تلك الصحف المنثورة على المائدة، والتي أسرعت الى جمعها وإخفائها حين رأيتني مقبلا عليك كأنك خفت أن أمد إليها يدا، أو أن أختلس إليها نظرة، قالت لا تقل هذا ولا تسرف في

<<  <  ج:
ص:  >  >>