ولعل من أبرع الأمثلة على هذه الحالة قول قيس في بعض أشعاره:
تعلقت ليلى وهي ذات تمائمي ... ولم يبد للنظار من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... صغيرين لم نكبر ولم تكبر البهم
فأنت ترى أن هذا الصبي المحب كان محباً قبل أن يتنبه فيه جهازه الجنسي، ولم يكن يصلح مطلقاً للمحافظة على النوع، بل أن ليلاه لم يكن قد تفتح في جسمها شيء من منبهات ذلك الجهاز. أفلست تسمعه إذ يقول: ولم يبد للنظار من ثديها حجم!
وأنا إذ أقول بوجود الحب الأفلاطوني لا أنكر حب (النوع) ولا أعيبه - وحاشاي أنا أيضاً أن أفعل - بل إني لأقول بإمكان اجتماعهما في نفس واحدة، ولكن الذي يعنيني هنا أن أثبت وجود هذا الحب الأفلاطوني الروحاني البريء الذي أحسه أحياناً، والذي يهمني جداً أن أطمئن غيري على وجوده ليتعلم كيف يحسه هو الآخر عند اللزوم. ذلك لأنه ضرورة من ضرورات الرجل المهذب الذي يريد أن يشعر أحياناً أنه ليس حيواناً دائماً، وأنه قد يسمو في بعض الأوقات فوق اعتبارات هذه المادة المظلمة التي هي جسمه وأجهزته الدنيا
يروى عن (المهدي) أنه لما هرب من المأمون ذهب إلى عمته فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت هذه غاية في الحسن فاحبها المهدي - أعني على طريقتي أنا لا على طريقة الأستاذ المازني - فكره أن يحدثها حديث (النوع)، وأنه قد حصل لجسمه تنبيه ليعمل على بقاء السلالة البشرية في دولة أمير المؤمنين، ولكنه تسامى بحبه إلى الغناء، فبينما هي قائمة على رأسه ذات يوم تَغَنى بهذين لبيتين:
يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه
أنا ضيف وجزاء الض ... يف إحسان إليه
فلما انصرفت الجارية من عنده أخبرت سيدتها بما سمعت من مولاها، فوهبتها له؛ فلما رجعت الجارية إليه بعد ذلك أعاد غناءه، فاكبت الجارية عليه، فدفعها عن نفسه قائلاً: كُفي! ما أنا بخائن! فقالت له أن سيدتي وهبتني لك، فقبلها قائلاً: أما الآن فنعم!
هذه هي كلمتي عن الحب الأفلاطوني وعن الوفاء. وأرى أن القول بأن (طينة) الإنسان لا تتفق مع هذا الخلق العظيم كما يقرر الأستاذ في شعره إنما هو محاجَّة بالأساطير، وتدليل بشيء لم يقل أحد أن له قوة الدليل. ونظيره أن يتقدم الشاهد إلى المحكمة مثلا ليقول أنه