بعض الشيء إلا أنها سريعة وغير متمركزة، وما ألصق هذه الأحوال بالأعمال العادية والأمور المألوفة؛ فالضمير يدركها دون أن يقف أمامها طويلا. وبعد هاتين المرحلتين نصل إلى درجة فيها تفكير وروية وتذكر وانتباه وبحث ومجهود. وهنا تبدأ المعرفة الحق ويدرك الضمير عمله في وضوح. وعلماء نفس الطفل المعاصرون وعلى رأسهم كلاريد وبياجيه قد خصوا هذه المرحلة بقدر كبير من العناية، وبينوا كيف يخطو الناشئ نحو إدراك نفسه وتكوين معلوماته؛ ثم تجئ أخيراً مرحلة التفكير الإنساني في أسمى صوره، حيث تعرض المشاكل العلمية والفلسفية، ويجهد الإنسان نفسه في تفهمها وقلبها على وجوهها رجاء أن يصل إلى حل واضح مقنع، وما هذه المرحلة إلا امتداد لسابقتها وصورة مكبرة لها؛ والأبحاث العقلية في جملتها محك للضمير، ومبعث نضال نفسي مستمر يراد به الوصول إلى الأفكار الجلية النيرة
يزداد فهمنا للضمير إذا بينا الخصائص التي تمتاز بها مظاهره؛ وقد عنى جيمس وبرجسون بشرح هذه الخصائص وتوضيحها التوضيح الكافي؛ وأول شيء يلحظه في الظواهر النفسية هو اختلاطها وتشعبها؛ فلا نكاد نجد أنفسنا أمام ظاهرة واحدة منعزلة، بل دائماً أمام مجموعات من أحوال نفسية مختلفة، أو كما يقول جيمس أمام حقول اكتسى بساطها بشتى الأزهار والألوان في ظاهرة نفسية واحدة، تلتقي احساسات متنوعة، وذكريات قديمة، وعادات ثابتة، وأفكار عديدة، وأحكام وتعليلات، وموازنات لا حصر لها؛ وهذه الأحوال النفسية كالأمواج الزاخرة تجري وتتغير من غير انقطاع؛ ومن هنا جاء تعبير جيمس المشهور: يثأر الفكر أو يثأر الضمير. فإحساسنا بشيء في حال اليقظة مختلف عنه في حال النوم؛ وإدراكنا لأمر ونحن متعبون يختلف عن إدراكنا له ونحن مستريحون؛ وشعور هذه اللحظة لا يتكرر مرة أخرى في نفس الظروف والمناسبات التي اقتضته، ولئن بدا تكراره لم يعْدُ ذلك المظهر العام؛ أما التفاصيل والجزيئات فمختلفة لا محالة، وكأن حركة التفكير كنهر جار تتابع موجاته إلى ما لا نهاية دون أن تعود موجة سيرتها الأولى؛ والفكرة الواحدة المستمرة التي تخطر ببالنا من حين لآخر دون تغيير أو تبديل أمر خيالي وبعيد عن الحقيقة. فنحن نحس الآن على صورة خاصة لن تستمر في اللحظة التالية، وما دمنا أحياء فنحن عرضة للتغيير، وما أصدق بسكال حين يقول: