للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الزمن يشفي الآلام والأحقاد لأنّا متغيرون ولا نحتفظ بشخصية واحدة، فلا المسيء ولا المُساء إليه يبقيان كما كانا) بيد أن القول بأن ظواهر النفس في حركة وتغير مستمر ليس معناه أن في تيار الضمير انقساماً أو انفصاماً أو تبايناً. فظواهر النفس في حركتها تدور حول نقطة واحدة وتتصل بأساس ثابت؛ وحياتنا الروحية في هذا الصباح ترتبط بحياتنا أمس دون أن يحدث النوم أي فراغ أو انقطاع في وحدتها. وعلى هذا فالحاضر من أحوالنا النفسية يحمل في طيّاته الماضي ويعد للمستقبل، وفي النفس حركة في انفصال وتغير في ارتباط. ومثل الحياة العقلية في هذا مثل قطعة موسيقية مكونة من نغمات مختلفة ومتميزة قد امتزجت واختلط بعضها ببعض فأنتجت لحناً منسقاً. وما ذاك إلا لأن أحوال النفس جميعاً متصلة بشخصية معينة، ومنجذبة نحو مركز واحد، ومنبعثة من شمس الضمير الوحيدة. وأوضح شيء في عمل النفس أنه يستلزم فاعلاً؛ ففكرة ما إما أن تنسب إليّ أو إليك أو إلى زيد من الناس. والفكرة التي لا أب لها لا أصل لها ولا وجود؛ على أنها إن وجدت فلا سبيل إلى تعرفها والتأكد منها، لأن ما نتبادله من أفكار إنما هو عمل أشخاص معينين محدودين.

من خصائص مظاهر الضمير التي ألممنا بها سراعاً نتبين بطلان المذهب الذري الذي يزعم أن الحياة العقلية بأسرها ترجع إلى جملة أفكار بسيطة التقت وارتبطت ونتجت عنها أفكار أخرى مركبة؛ ومجموع هذه وتلك مسود بقانون تداعي المعاني. فالظواهر النفسية تتلخص في جملة وحدات وضع بعضها بجانب بعض، وفي مجرد انضمامها ما يكفي لتكوين حياة عقلية. تلك هي نظرية لوك ومن جاء بعده من رجال المدرسة الإنجليزية أمثال هيوم وميل وبين وسبنسر. ولا يبعد عن هذه النظرية كثيراً ما قال به كوندياك الفرنسي من أن الروح ليست لا مجموعة صور حسية توزعت إلى طوائف عدة فنشأت عنها القوى النفسية المختلفة. وكلتا النظريتين تهدم فكرة الضمير من أساسها، ولا ترى في النفس شيئاً سوى ما يمليه الحس. لذلك قام في وجهها الأيقوسيون من جانب، ومين دي بيران من جانب أخر، مثبتين أن في الروح حياة وقوة تجاوزت المدركات الحسية، ولولا هذه القوة وتلك الحياة ما نظمت آثار الحس، ولا نتجت عنا أفكار مستقيمة. هناك روح، هناك نفس، هناك شخصية، أو هناك ضمير، سمه ما شئت، والمهم أن الظواهر العقلية ليست مجرد

<<  <  ج:
ص:  >  >>