المستغل لكفاح غيره، رأينا أن التعليم لم يف ببلوغ الغاية الأخيرة منه، مادمنا نرى أن ابن الفلاح بخبرته الموروثة مستقل في حياته منتج بعمله، في حين أن المتعلم يفقد مع التعليم استقلاله الذاتي ويتطلع دائماً إلى حياة الركود لا إلى حياة الكفاح التي لم يهيئ له تعليمه طريقها الواجب
على أن قليلا من التأمل في هذه الالمامة التي ألممنا فيها بأوجه التطور الاجتماعي الذي انتابنا منذ خمسين سنة خلت، يحمل المفكر على المضي خطوة أخرى في تأملات إذا أحطنا بها نكون قد فرغنا من التمهيد للفكرة التي نريد أن تكون الدعامة التي يقوم عليها أساس التعليم في مصر، فنرى ما يأتي:
أولا: إن طرق التعليم التي عكفنا عليها إلى الآن شطرت الأمة معسكرين: الأول معسكر المتعلمين على القواعد الأوربية التي اتبعناها في مدارسنا، وخرجوا بهذا التعليم عن جو ثقافتنا التقليدية، فأصبحوا نصف مصريين؛ والثاني معسكر الفلاحين الذين أبعدناهم عن الثقافة الحديثة، وحافظنا على ثقافتهم التقليدية فصاروا بذواتهم في القرن العشرين، وبعقليتهم في مصر الفرعونية
ثانياً: كونَّا بهذا طبقتين غير متجانستين، بل مختلفين تمام الاختلاف، بحيث لا تجمع بينهما من رابطة إلا الرابطة الطبيعية التي هي رابطة الدم؛ فكنا في ذلك أشبه بالمستعمر الذي يرغب دائماً في أن يزيد من الصدوع التي تفصل بين طبقات الأمة، لا أشبه بالمصلح الذي يعمل دائماً على أن يرأب تلك الصدوع ويقرب بين الطبقات حفظاً للتوازن الاجتماعي. ولا شك في أن هذه السياسة تؤدي بطبعها، وعن غير قصد، إلى حرب الطبقات التي نحن مقدمون عليها حتماً إذا استمر التعليم على نماذجه الحاضرة وأخذت تلك الصدوع والفوارق تزيد عاماً بعد عام
ثالثاً: دليلنا على هذا أن ابن الفلاح إذا أثرت فيه الثقافة الحديثة، سواء أكان تعليمه في مصر أم في إحدى جامعات أوربا، أصبح لا ينشق في جو بلاده نسيم الثقافة التي نشأ فيها، فتلحظ فيه روح التبرم بأبيه الفلاح وأمه الفلاحة، وتأنس فيه نزعة قديمة تدفعه دائماً إلى حب العودة إلى الجو الذي نشأ فيه، فتراه قلقاً غير مستقر، هدَّاماً لا بنَّاءً، يريد لو تتاح له الفرصة ليعود إلى الجو الذي كان فيه؛ فإذا أعيته الحيلة، كما يحدث دائماً، واضطر إلى