البقاء في جو بلاده، هجر الريف، مرباه الأصيل ومربى آبائه وأجداده منذ قرون طويلة ومنشأ تقاليده منذ أزمان لا تعيها الذكريات، ليسكن في مدينة من المدن، فيفضلها مع عيش الفقر والعوز على الريف مع عيش الراحة والهناءة؛ وتراه ينزع إلى البطالة في مدينة دون العمل الذي هو أجدر بحياة الرجولة في الريف. ومن هنا تتكون الطبقات المتبرمة بالحياة، العاملة على الهدم دون الإصلاح، النزاعة إلى الأفكار المتطرفة والثورات. أولئك الذين عناهم العلامة هنري جيمس في كلمته التي سقناها من قبل
رابعاً: وأنت أينما وليت وجهك رأيت أثر المعسكرين اللذين كونهما التعليم المصري ظاهراً جلياً. فأنت تنتزع الولد من حضن أبيه الفلاح وأمه الفلاحة، فكأنك تنزعه من حضن (مصر الفرعونية)، لتنشئه في حضن (مصر الأوربية)، وتخرجه بعد ذلك قاضياً أو محامياً أو مهندساً أو تاجراً أو رجل إدارة أو غير ذلك، ولكن بروح أوربية تكسوها ثياب مصرية شفافة؛ وبالأحرى تخرج رجالاً انبتت صلتهم بتقاليدهم الثقافية القديمة. وأنت في دور العدل وفي المتاجر وفي مركز الإدارة وفي عيادة الطبيب ومكتب المهندس، واقع في كل دقيقة على مظهر من مظاهر التفرقة بين المعسكرين. فالفلاح البعيد عن مدنية المدن، وبالأحرى البعيد عن جو الثقافة الأوربية الذي نشأ فيه القاضي والمحامي والتاجر ومأمور المركز ومعاون الإدارة وطبيب القرية، يمثل معسكر مصر الفرعونية؛ أما هؤلاء فإنما يمثلون (مصر الأوربية)، ولا شك في أن هذا مظهر من مظاهر الانحلال الاجتماعي، لا يسأل عنه في مصر شيء بقدر ما يسأل التعليم
خامساً: بالرغم من أن المتعلم قد نزع بفكره نزعة أبعدته عن ثقافة آبائه التقليدية، فقد أثرت تلك الحال في مزاجه وتصوراته ونظراته الفنية في الحياة، تلك النظرة التي يجب أن تكون مصرية صميمة، ويجب أن نحافظ عليها نقية على سجيتها لنكون مصريين جديرين بالمصرية، وكان من نتائج هذا أن المتعلمين يفضلون أقذر قرية أوربية على ريفنا الجميل وبحيراتنا الفاتنة، حتى لقد كادت تقوى النزعة الأوربية فينا على وحي النيل نفسه؛ والسبب في هذا أننا كنا خلال الخمسين عاماً الماضية كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، إذ انتزعنا من أرواح ناشئتنا (مصريتها)، ولم نترك فيها من المصرية إلا لون البشرة، ولقحناهم بالروح (الأوربية) فلم نبق مصريين كأهل الريف، ولم نستطع أن نكون