قادر بذاته. (فليس يحتاج في أن يتعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجة عن ذاته، ولا في أن يكون معلوماً إلى ذات أخرى تعلمه، بل هو مكتف بجوهره في أن يَعلم ويُعلم، وليس علمه بذاته شيئاً سوى جوهره، فإنه يعلم وأنه معلوم وأنه علم، كل ذلك ذات واحدة وجوهر واحد) فالفارابي وابن سينا يقولان، كالمعتزلة، بوحدة الذات وبلغيان الصفات الخارجة عنها، وفكرة الإله عندهما أساس الذهب جميعه، وكل المسائل الأخرى متفرعة عنها. وفي هذا ما يبين مسافة الخلف بينهما وبين أستاذهما أرسطو
لم يفارق فلاسفة الإسلام أستاذهم في هذه النقطة فحسب، بل انفصلوا عنه في مسألة أخرى هي نتيجة لهذه، ألا وهي الصلة بين الله والعالم. وذلك أن أرسطو وقد قال يقدم المادة والحركة لم يدع لله مكاناً في هذا العالم. نعم إنه يسميه المحرك الأول ومعنى هذا أنه علة فاعلية، ولكنه يعود فيقول إنه محرك ساكن؛ وكل ما هنالك أن العالم يتجه إليه في حركته. فهو غرض وغاية فقط؛ وليس تأثيره في العالم بأكثر من تأثير التمثال الجميل في نفس المعجب به. وإله هذا شأنه يتنافى مع ما يصرح به القرآن من أن الله خالق كل شيء. فلا المادة ولا العالم يتصور لهما وجود بدون الله. والتغيرات الكونية على اختلافها ترجع إلى الخالق المبدع جل شأنه. إزاء هذا التناقض الواضح فجاء الفارابي وابن سينا إلى حل وسط فقالا إن المادة مخلوقة وقديمة. خلقها الله بفيض من عنده أولاً وتعهدها بعنايته ورعايته فيما بعد. وكلمة (فيض) هذه ليست من الكلمات التي تمر بنا دون أن نعيرها أية أهمية فإنها ذات مدلول خاص وأهمية تاريخية. ويراد بها أن الله وهو عقل محض وتفكير مستمر قد صدر عنه العقل الأول كما يصدر الضوء عن الشمس، وعن العقل الأول صدر العقل الثاني وهكذا إلى العقل العاشر. وهذه العقول مرتبة ترتيباً تنازلياً فأسماها العقل الأول وأدناها العقل العاشر. وهي موزعة على الأفلاك المختلفة لتمدها بالحركة وتحقق فيها النظام. ويختص العقل العاشر أو العقل الفعال بالعالم الأرضي وعنه صدرت المادة التي هي مخلوقة وقديمة في آن واحد. يقول الفارابي: (وأول المبدعات عنه شيء واحد بالعدد وهو العقل الأول ويحصل في المبدع الأول الكثرة بالعرض لأنه ممكن الوجود بذاته، واجب الوجود بالأول، ولأنه يعلم ذاته ويعلم الأول. وليست الكثرة التي فيه من الأول لأن إمكان الوجود هو لذاته وله من الأول وجه من الوجود. ويحصل من العقل الأول بأنه