للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الثورية

أدر الدفة يا ربانها! لقد أحدق الخطر بها، فالربان مشفق يرقب مجراها وهو أشد حذرا وأكثر تشاؤما. لقد وقع ما كان يخشاه وجرت الدماء في باريس، وطاف شبح الفوضى بالأقاليم، وبات الشعب في سكرة النصر يتوعد ويتوثب، والملك لا يزال ألعوبة في يد بطانته وعلى الأخص في امرأته، والمهاجرون من الأشراف يؤلبون أوربا على الثورة، وغول الخراب المالي يطالع البلاد من كل ناحية

ولكن الربان وسط العاصفة لا يعرف اليأس سبيلا إلى قلبه. زار باريس فهبت تزاحم مهرجانه باريس، وطاف بخرائب الباستيل يشهد مصرع الظلم فامتلأت عربته بالزهور، ورأى الحرية الحمراء تعلن عن نفسها في أجواء المدينة راقصة صادحة، فهل أطربه ما سمع وما رأى؟ كلا بل أمضه ذلك وأزعجه

زادت الحوادث مهمته صعوبة ولكنها لم تفل من عزمه، ولعله كان يأمل أن يجد في اشتداد الأزمة مخرجا من الأزمة! وإن بدا ذلك متناقضا. كان يرجو أن يكف أعوان الملك من غلوائهم، ويصالحوا على الثورة نفوسهم، ولكنه ما لبث أن عرف أنهم لا يزالون يبيتون لها وهم بذلك يرسمون طريقهم إلى الهاوية ويجرون معهم ملكهم المسكين. ومن له بأن يدرك هؤلاء عاقبة طيشهم؟

يا لله! ألم يأن للذين استذلتهم شهواتهم وحطهم كبرياؤهم أن يفيقوا من غمرتهم؟ ما بال فرساي تتحدى في أشخاصهم باريس؟ ما بال أوانس البلاط وفرسانه تخف أحلامهم فيهينون في حفل بهيج يقيمونه لفرقة سويسرية من فرق الحرس الملكي شعار الثورة ويسخرون من مبادئها؟ يا ويحهم! ألم يكفهم ما باتوا فيه يتقلبون من نعمة، فهم ضاحكون ممن يبيتون على الطوى ويفيقون على الوساوس والأوهام؟ ولكن باريس ترسل إلى أختها رهطا من نسائها وغوغائها، فإذا الملك وحاشيته رهائن عندها يتخذ على الرغم منه من التويلري سجنا له!

أدر الدفة يا ربانها! لكنها جمحت اليوم والتوت عليه. وأنى للجمعية أن تقنع بما كانت تقنع به بالأمس؟ لقد صارت الكلمة لعامة باريس وأندية باريس وصحف باريس!

وإن المرء ليتساءل لم يخاف ميرابو كل ذلك الخوف من خطوات الشعب وانتصاراته؟ والجواب على ذلك يسير، فقد كان يرى في خطة الشعب ما يباعد بينه وبين الملكية وما

<<  <  ج:
ص:  >  >>