يحمل الملك وبطانته على الجد للقضاء على الثورة وهو لا يرى لها نجاحاً إلا في التوفيق بين القوتين، هذا إلى ما كان يخشاه من احتمال تدخل أصحاب العروش لحماية عرش فرنسا إذ كان المهاجرون لا يفتأون يوقعون بينهم وبين شعبهم العداوة والبغضاء، وأهم من ذلك كله فقد راحت الجمعية تعلن حقوق الإنسان وتثير عقيم الجدل حول الدستور، دون أن تتناول مشاكل البلاد الأساسية بالحل. فلقد ظلت الحالة المالية على ما هي عليه إن لم تكن ازدادت سوءا، وتعقد الموقف السياسي بين فرنسا وإنجلترا والنمسا، ومما ضاعف حرج الموقف أن الجمعية رأت ألا تجعل للملك سلطة فعلية في الاعتراض على القوانين، وفي إعلان الحرب والسلم، ولقد هال ذلك ميرابو فقال يوماً لصديقه لامارك:(إن البلاد مقدمة على أشد ضروب الفوضى، وما لم تتدارك الملكية فالفناء مصيرها حتما، ويوم يحيق بها الفناء وتضرب الفوضى بجرانها يساق الشعب إلى الرضى بالاستبداد المطلق، إذ يكون المستبد في تلك الحال في نظره هو المنقذ المصلح). وإنك لتراه بهذا كأنما يرى المستقبل ويصف لك مذابح سبتمبر وعهد الإرهاب وديكتاتورية روبسبير مما يدل على لقانة مدهشة!
وقف في الجمعية وكانت قد انتخبته رئيساً لها يدافع في عزم وقوة عن حق الملك في الاعتراض على القوانين، داعياً بكل ما في وسعه إلى تقرير مبدأ الملكية الدستورية؛ ولا تسل عما كان يبذله من جهد أعانته عليه قوة بدنه، وعما كان يعرض من آراء أوحت بها إليه دقة فهمه، وبعد نظره، وصدق تجربته؛ وهو في هذا الموقف الذي يؤود حمله الجبابرة لا يغفل شؤون وطنه فيفاوض (بت) في إنجلترا، ويتلمس حلا لإرضاء النمسا، ويلقي على الجمعية البيانات المسهبة في المشكلة المالية، ويلفت إليها أصحاب الرأي. وجملة القول أنك تراه يعمل عمل رئيس حكومة، وإن لم يكن له مركزه، حتى لقد وصفه كاي ديمولان بطل الهجوم على الباستيل بأنه (قنصل أكثر منه رئيس جمعية دستورية)
ألا ترى في ذلك الإخلاص كأروع ما يكون الإخلاص، وتلمس فيه الرجولة كأقوى ما تكون فيه الرجولة؟ ألا ترى كيف ينسى الرجل نفسه، ولا يذكر إلا وطنه؟ ولكن الجمعية وا أسفاه قد خذلته حين كان ينتظر منها العون. وظلمته حيث كان يطلب إليها الإنصاف!
أخذ الشك في نياته يتسرب إلى نفوس النواب، والشك إذا تملك النفس يعمي ويصم، وليس مثله داء يبدل عرف الناس نكرا، ويجعل نهارهم ليلا، ويلبس الحق بينهم بالباطل. أنظر