إلى هؤلاء النواب كيف يرون في رجلهم اليوم رجل الأمس، تخيفهم طويته وإن أعجبتهم حجته، أو تريبهم حماسته وأن هزتهم فصاحته، وتدفعهم إلى معارضته بديهته وإن أنقذتهم يقظته! ولكن أخيل الثورة لم تلن قناته وإن جاء غمزها ممن يعمل لهم، ولم تنفك عنه عبقريته وإن التوت عليه الأمور أو كادت؛ وظل يبسط آراءه للناس وينذرهم أن الثورة تقتل نفسها إن جرد الملك من سلطانه وجعل التشريع والتنفيذ جميعاً للشعب. وكان قد أدرك يومئذ أن الملك بعد أن صار رهينة في باريس، وبعد أن ترامى إلى سمعه وسمع حاشيته ما يريد العامة بنفوذه، وما تقول الصحف عنه، لابد أن يفكر في الالتجاء إلى أعداء البلاد، وما لبث ميرابو أن تحقق من ذلك، إذ علم أن المفاوضات كانت جارية بين البلاط الفرنسي والبلاط النمسوي؛ ومعنى هذا أن الحرب عما قريب ستكون كبرى مصائب البلاد!
وفي هذا الجهد الذي يبذله ميرابو دليل على مقدرة فائقة في السياسة تزيد إعجابنا بهذا الرجل، ويدحض فرية من يصفون أعماله بالهدم، وتسخر ممن يذكرونه فيجرؤن على تسميته كبير الغوغاء! على أن لكل عظيم حساده وأعداءه، كما أن له مناصريه وأصفياءه. وليست الحنكة السياسية فحسب ما ينطوي عليه موقف ميرابو، بل إن المرء ليعجب ببسالته، حين يواجه الثوار بتلك الآراء وحين يترفع عن تملق الشعب واسترضائه، وحين يجعل الإخلاص لما يرى أنه الحق فوق العواطف والأهواء الشعبية، ولو لم يكن له غير ذلك من المآثر والصفات، لعد بذلك الخلق وحده عظيما من العظماء!
يئس ميرابو من النواب ولكنه لم ييئس من نفسه وسنراه اليوم يخطو خطوة جعلها خصومه كبرى خطيئاته، وأود لو أجعلها كالعنوان من حسناته لولا ما أحاط بها من ظروف وما اكتنفها من ظنون، بل وما لحق بها من عيوب!
كان طبيعياً أن يلجأ إلى الملكية بعد أن أعياه صرف الشعب عن غيه، وبعد أن حيل بينه وبين منصب رسمي يستعين فيه بالقوة على تنفيذ سياسته. ولو أن نواب الجمعية أدركوا حقاً مصلحة وطنهم لعلموا أن هذا الرجل كان يومئذ خير من يضطلع بأعباء الحكم. ولكنه حين اقترح عليهم السعي إلى استبدال الوزارة القائمة بوزارة قوية بادروا إلى إصدار قرار يحرم الوزارة على كل عضو من أعضاء الجمعية، وما كان المقصود بهذا القرار سوى ميرابو وحده!