ولقد ثارت ثائرته لهذا القرار، فلم يتمالك أن صاح بالنواب قائلا:(سوف تذرفون الدمع دماً على ما تفعلون). وندم ميرابو أشد الندم أو قل أسف أشد الأسف على أن لم يكن بباريس عقب سقوط الباستيل، إذ لولا غيابه عنها لتشييع رفات والده لانتخب عمدة لها بدل باي، ولقد كان هذا المنصب يمكنه من صد تيار العنف أو على الأقل يمهد له سبيل الاتصال بالملك.
وهل كان في تطلع ميرابو إلى الحكم ما يشينه؟ كلا بل إن في ذلك ما يزيدنا احتراماً له وتقديراً لسياسته مادام الحكم إحدى وسائله إلى تنفيذ غرض يعتقد حقاً في صلاحيته، فضلا عن دفعه به خطراً يكاد يجتاح البلاد. وإن أعجب فعجب عد ذلك من نقائصه أو من نقائص أي زعيم في مثل موقفه يرى في الحكم طريقا إلى الخلاص! إن النقيصة كل النقيصة ألا يسعى الزعيم في تلك الحيلة ما وسعه السعي للوصول إلى الحكم
خطا ميرابو خطوته نحو الملكية ووسط صديقه لامارك لدى البلاط، وأخيراً قبل الملك أن يستعين بآرائه، وصار ميرابو منذ مايو سنة ١٧٩٠ المستشار السري للملك! وهنا يأبى سلوكه الخاص إلا أن يختلط بسياسته العامة فيلحق بها كثيراً من الشوائب أطلق الناس فيما بعد من أجلها ألسنتهم فيه بكل فاحش من القول وباطل من الاتهام. وبيان ذلك أن ميرابو وقد غرق في الدين من أخمصيه إلى قمة رأسه بسبب تبذيره من ناحية وبسبب انشغاله بشؤون وطنه عن شؤونه الخاصة من ناحية أخرى، قد قبل أن يدفع عنه الملك ديونه وأن يجعل له أول كل شهر ستين ألفاً من الفرنكات
أيفسر عمله هذا بالخيانة؟ ويعتبر قبوله المال رشوة؟ هل غير خطته فمالأ الملك على حساب أمته في نظير ما أخذ من مال؟ كلا! بل لقد ظل أميناً لمبدئه وفياً لوطنه، إذاً فمن الظلم أن يفسر عمله بالخيانة، ومن الإسراف أن نعتبر قبوله المال رشوة، بيد أني وإن نفيت الخيانة والرشوة عنه وشايعت من يعتبرون هذا المال مكافأة له على خدماته، لا يسعني إلا أن أقرر أنه ليؤلمني أن يلجأ من كان له مثل عظمته وبسالته إلى العمل في الخفاء مهما كان من نقاء طويته ومهما جر ذلك من غضب الشعب عليه، كذلك ما كان لزعيم أن يبيع خدماته بالمال ولو عدم قوت يومه
أخذ ميرابو يقدم التقارير للملك، كما أخذ يدافع بكل ما في نفسه من قوة عن مبدأ الملكية