بالتأليف المونق. وهذه الأقوال لا تصدر إلا من رجل وهب ضميرا علميا يزعه عن الأوهام وينزهه عن ذكر المغالط ويدعوه إلى التثبت من العلة وتنقية الثقة من الريبة، وتطهير الحجة من الشبهة.
وأنا لنراه في كتبه ومؤلفاته يستند كثيرا إلى التجربة ويعتمد على الملاحظة، فإذا ما أعوزته التجربة ولم تتيسر له الملاحظة رجع إلى ثقة من الثقات للمذاكرة فإذا لم يجد الثقة الذي يعتمد عليه ويتذاكر إليه ربأ به ضميره عن نقل المعارف نقلا مهما كان مصدرها. فها هو ذا في كتب الحيوان تناول ذكر كثير من الحيوان والطير والحشرات ورجع إلى ما كتب أرسطو في الحيوان، وأخذ عنه بعض ما حققه بنفسه أو قامت التجربة على صدقه. ورفض أن يثبت في كتبه معلومات غريبة عنه، فنراه مثلا لم يكتب شيئا عن (السمك) مع أن ارسطو أفاض وأشبع القول في هذا الموضوع. ولكن الجاحظ أبى أن ينقل عن ارسطو شيئاً في هذا البحث؛ وعلة ذلك انه لم تتوفر له الملاحظة عن السمك وعن طباعه وأحواله وأنه سأل البحريين عن بعض الحقائق الواردة في كتب ارسطو فلم يصل منهم على قول محقق؛ لهذا ترك هذا الباب كلية ولم يكتب فيه حرفا.
وأنا لنتمنى أن نجد مثقفا مصريا أو شرقيا يخصص نفسه؛ وينفق عمره في التنقيب عن كتب الجاحظ العلمية في مظان وجودها ومحال مكامنها. وينقلها إلينا ليخدم بذلك الثقافة المصرية. لأن البحوث التي لدينا عن الجاحظ كلها موجزة مجملة؛ وكلها تركت الناحية العلمية جانبا. فالسندوبي قصر بحثه الواسع على (أدب الجاحظ) وترك علمه. واستقى مادته من جمهرة صالحة من الكتب الأدبية، والأستاذ خليل بك مردم كتب بحثا مجملا مفيدا عن الجاحظ وثقافته. والأستاذ أحمد أمين كتب فصلا بديعا موجزا عن الجاحظ ومس الناحية العلمية مساً خفيفا. وليس من شك في أننا في حاجة إلى من يدرس الجاحظ درسا واسعا من جميع نواحيه. واليوم الذي نجد هذا الرجل هو اليوم الذي نقع فيه على ثقافة ممتعة، ونواح طريفة للتفكير العربي.
ثقافة الجاحظ السيكولوجية
ومن النواحي الطريفة لثقافة الجاحظ الناحية النفسية أو السيكولوجية. وهذه الناحية ماثلة بجلاء في طائفة من كتبه. وهي أشد ما تكون جلاء في كتب الحيوان السبعة. فقد تناول في