المتطفل شرة وبأساً، حتى ينتهي الأمر بحدوث ما يسميه الاجتماعيون (بالتنكس الاجتماعي) وهي حالة تتساوى فيها طبقات المجتمع لا من حيث الكفايات العليا ولكن من حيث العجز عن العمل المنتج. وما لهذا الأمر من نتيجة إلا الفوضى الغامرة، ولا ينكر أحد أن في مجتمعنا هذه الظاهرة الخبيثة. فالأيدي العاملة لا تنال من منتوج عملها ما يكفي للاحتفاظ بحيويتها، والأيدي المتعطلة تبدد ثمرات تلك الجهود. وعلم ما يترتب على ذلك عند الله.
ومن تلك الحالات هجر الريف والعيش في المدن. ولقد بحث هذه الظاهرة كثير من الكتاب منهم: أدمون ديمولاند الفرنسي، والأستاذ استن فريمان الإنجليزي، في بحوث مستفيضة عالجوا فيها الحالات التي نشأت في فرنسا وإنجلترا وعطفوا بعض الشيء على حالات نشأت في غيرهما من بلدان أوربا. ولا جرم أن هذه الحالات تتشابه. فالأسباب التي تدعو الفرنسي أو الإنجليزي إلى هجر الريف والإقامة في المدن، أو بالأحرى حب التّحضر (بمعنى المعيشة في الحواضر) تكاد تكون نفس الأسباب التي تحمل المصري على أن يفعل ذلك. غير أن النتائج تختلف باختلاف البلدان على مقتضى ما في كل شعب من الاستعداد والصفات، وفي الأكثر على مقتضى الثقافة التقليدية التي يختص بها كل شعب من الشعوب
ولسوف نبين في مقال آت فكرتنا في أثر الثقافة التقليدية في الكيان الاجتماعي بكل أمة من الأمم. ونكتفي الآن بأن نقول إن شعبا كالشعب المصري الزراعة ثقافته التقليدية منذ أبعد عصور التاريخ، لابد من أن يتأثر بزيادة الميل إلى التحضر تأثراً عظيما لا يحسُّه شعب آخر ثقافته التقليدية غير زراعية. بل على الضد من ذلك أعتقد أن الشعوب التي تكون ثقافتها التقليدية صناعية أو تجارية، يجب أن تحتمي بحياة التحضر صيانة لمصالحها العامة. أما تحضُّر شعب ثقافته التقليدية الزراعة، فتلك هي الطامة الكبرى على كيانه الاجتماعي؛ وتلك هي الطفرة العظيمة إلى أبشع صور التطفل الاجتماعي
ونحن نعلم علم اليقين بأن مدننا المصرية مدن غير صناعية بالمعنى المفهوم من ذلك في أوربا. بل أعتقد وأظن أنني أعتقد بحق، أن مدننا ليست إلاَّ أسواقاً تستهلك فيها منتوجات الريف؛ وهذه الحقيقة وحدها كافية لأن تظهرنا على أن ميلنا إلى التحضر، مع التعطل عن العمل يرهق المنتج ويرهق السوق المستهلكة؛ لأن المتعطل في الواقع عبء على الجمعية؛