أن يهز ذلك التغير الطارئ أعماق وجودها هزاً عنيفاً شديداً؟
كذلك الحال في أمة أخرى ثقافتها التقليدية صناعية كإنجلترا أو فرنسا مثلاً. فإن انفكاك أمة منهما من الصناعة معناه تحطيم لروحها الموروث، بل ولكل ما تقوم عليه حياتها أدبية ومادية من القواعد الأصلية في نفسيتها وغرائزها. وأظن أن المصريين لا يخرجون من مقتضى هذه القاعدة. فإن لمصر ثقافة تقليدية هي الثقافة الزراعية التي ورثناها بحكم وجودنا على ضفاف النيل. وواجبنا كأمة رشيدة أن نقيم كياننا أصلاً على أساس هذه الثقافة الموروثة ثم نكملها بمقتضيات ما يتطلب هذا العصر من ضروب الثقافات الأخرى. أما عكس هذه الآية، وذلك ما ننتحيه الآن مع الأسف، فنهايته الخراب العاجل والدمار الشامل
إن ما يزرع من أرض هذا الوادي الخصيب في هذا الزمن جزء قليل مما يمكن استغلاله، ولكنه على قلته لا يستغل الاستغلال الوافي، ولهذا أسباب يطول بنا شرحها، وإنما نذكر ذلك لنقول بأن كل عاطلي هذا الزمان إنما هم عاطلون بحكم الثقافة التي تلقوها وبحكم الظروف التعليمية التي نشأوا محوطين بها، وإن بلاداً كمصر تستطيع أن تعضد من السكان ضعف ما تعضد الآن، من العجيب أن تقوم فيها مشكلة تعرف بمشكلة البطالة، وأن تؤلف في سبيلها اللجان، وتعصر الأفكار، وتسهر الأعين الليالي الطوال، ونصف الأرض المزروع فيها يكاد يكون بوراً، والنصف المزروع لا يغل أكثر من نصف ما يجب أن يغل إذا أحسن القيام عليه بالطرق العلمية الحديثة، وأكبر ظني أن السبب المباشر في قيام هذه الحال إنما يرجع إلى أننا نسينا أن لنا ثقافة تقليدية يجب أن تكون أساس الحياة في هذا الوادي. وإذن يجب أن تقوم سياسة التعليم أول شيء على فكرة الاتصال بثقافتنا التقليدية
لقد مضينا حتى الآن نقيم قواعد التعليم على النظريات، لا على طبيعة بلادنا. لهذا نرى أن كل النتائج قد اتجهت اتجاها سلبياً، لا اتجاها إيجابياً وعكس ذلك ما نطلب أن يكون
جدت في مصر مشكلة عرفت بمشكلة العاطلين من المتعلمين، وما من سبب لهذه المشكلة في الواقع إلا السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا بالفصل بين ثقافة أولادنا التي يتلقونها بين جدران المدارس وثقافة آبائنا الأقدمين. وحدث في مصر أن انشقت معسكرين لا اتصال لأحدهما بالآخر، معسكر المتعلمين العاطلين الذين لا اتصال لهم بثقافة بلادهم التقليدية، ومعسكر الفلاحين الذين اتصلوا كل الاتصال بثقافة بلادهم الأصلية، من غير أن