للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يلقحوا بشيء من مقتضيات الحياة في العصر الحديث. وبدأت في مصر روح التبرم بالحياة المصرية، نتلقى كل يوم ألواناً مما ينتج على يد المتعلمين الذين إن لم تعوزهم الهمة إلى العمل فقد يعوزهم المجال الذي يعملون فيه بقدر ما هيأهم التعليم النظري الذي عكفوا عليه. ولسوف نتقدم خطوة بعد أخرى متمادين في العمل على زيادة عدد معسكر العاطلين مادمنا نعكف على تعليم أولادنا على أساس النظريات لا على أساس العمليات، ومادمنا نخرج رجالاً لا يعرفون عن طبيعة بلادهم شيئاً. ولن أكون مبالغاً إذا قلت إن ابن الفلاح الذي يتخرج في كلية من الكليات العليا ليس بأكثر علماً بطبيعة بلاده من زميله ابن المدينة الذي يتخرج وإياه في معهد واحد. فإذا لم يجدا لهما مرتزقاً أصبحا صنوي بطالة، ولم يمتز ابن الفلاح على ابن المتحضر بشيء مما امتاز به جدودهما من أهل الريف من قدرة على الإنتاج والعيش بما تغل سواعدهم من ثمرات الأرض

ويخيل إليّ، وربما كنت على كثير من الحق فيما أتخيل، أن الخطأ الذي نلحظه في سياسة التعليم في بلادنا غير قاصر على قمع ثقافتنا التقليدية عن أن يكون لها أثر في تكويننا العقلي والخلقي، بل إننا أضفنا إلى هذه الخطيئة خطيئة أخرى هي أننا عملنا دائماً على تضخيم المعلومات التي يتلقاها الطلبة في مدارسنا الثانوية والكليات. فقد يخرج المتعلم إلى ميدان الحياة العملية بعد حياة أمضاها في جو من النظريات الصرفة، وهو يعتقد أنه قد مليء علماً بالحياة، ثم لا يلبث أن ينكشف له الحق وإذا به يرى أن كل ما يعرفه من نظريات العلم والأدب والفن لا يكفيه رزق يومه ولا يغنيه عن الاكباب على ناحية أخرى من نواحي الحياة العملية يدرسها لتكون له في الحياة عوناً على تحصيل الرزق. ولا شك أن ذلك يحدث ارتجاجاً عظيماً في حياة شاب ملأه الأمل في الحياة والزهو بما تجمع في رأسه في المعلومات. وما من ريبة في أن هذه الصدمة المعنوية لها أثرها البالغ في سلوك الشاب وتفكيره ربما لازمه طوال حياته

يعكف الشاب المصري بين جدران معهده على ناحية نظرية من العلوم البعيدة عن تجارب الحياة ويتلقى أنواع المعارف المختلفة ويمضي مكباً عليها عمراً حتى يكون له نظرة خاصة ويتجه بفكره وقلبه اتجاهاً معيناً وينشئ في عقليته قيما للأشياء وفناً ينظر من طريقه في الحقائق. وعلى الجملة يتكون منه طريق معارفه تكويناً يهيئه لأن يكون وحدة مستقلة في

<<  <  ج:
ص:  >  >>