للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

جسم اجتماعي. فإذا استبان له الواقع وواجه الحياة بما استجمع من معارف فعلم أن للحياة طريقا آخر غير الطريق الذي صرف فيه عمر وأن لها قيماً أخرى غير القيم التي يؤمن بها. وأن لها فناً غير فنه الذي ينظر من طريقه في حقائق الوجود، انقلب على الماضي ثائراً ومن المستقبل يائساً، وخيل إليه أن المجتمع جنى عليه فسلبه سلاح العمل وجرده من عدة الهجوم والدفاع في ميدان المنافسة الاجتماعية. وما بالك بهذا الشاب نفسه إذا هو أراد أن يرتد إلى مصريته فيصبح فلاحا كأبيه وأن يتصل مرة أخرى بثقافة بلاده التقليدية، فيتضح له أن علمه بطبيعة بلاده ضئيل، وأن معرفته بطريقة الحياة فيها لا توانيه بالعدة الكافية للحياة في وسط مصري أصيل، الفلاح سداه والفلاحة لحمته؟

من الأخطاء التي لا ينبغي لنا أن نغفل عن وزنها وزناً صحيحاً أن تعليمنا الأدبي في الكليات ينقل إلى الأذهان صوراً من الأخلاق وفنوناً من السلوك ومذاهب من الفلسفة النفسية تختلط في عقليتنا اختلاطاً عظيما حتى لنكوَّن منها مقاييس جديدة بعيدة جد البعد عن المقاييس الخلقية والسلوكية التي يؤمن بها الفلاح الساذج. فإن عصور الظلم والاستبداد التي عانى فلاح مصر في خلالها الأمرين، وتوالي الدول في الحكم على ضفاف النيل قد طبعت الخلق المصري بطابع خاص وصبغته بصبغة خاصة، ويجب أن يعنى بدرسها المصري المتعلم أوفى الدرس وأن يكب على تفهمها كل اكباب، قبل أن يظن أنه قادر على أن يعايش ذلك الفلاح الخشن الجاهل، وأن يعلم في أول ما يجب عليه أن يعلمه من جهة العلم بالنظريات قد عوضته عنه الطبيعة ذكاء حاداً وقدرة على التحايل وفطنة في إدراك الحقائق، وأيقظت فيه قوى العقل الباطن إيقاظاً شديداً حتى يكاد يكون عند بعضهم إلهاماً في توقع الأشياء وحدوثها. أضف إلى ذلك أن طبيعة البلاد ثقفته بثقافة ورثها على مدى العصور. ثقافة أحيت فيه روح اليقظة يتلقى بها الأحداث مكتمل الهمة ثابت القلب قوي الجنان عظيم الثقة بنفسه. فأن بلاداً تتوالى فيها دورات الزراعة كبلادنا، ويفيض فيها النيل في مواعيد محدودة، قد غرست في نفسه بالتجربة أن الحياة فرص يجب انتهازها، وعلمته أن إهمال ساعة أو يوم قد يفوت عليه رزق عام. هذا الفلاح الذي اكتملت ثقافته العملية من هذه النواحي وأمثالها، وهي كثيرة متعددة، هو بذاته موضوع درس عميق لا يستغني عن معرفته مصري يريد أن يعيش من فوق أرض مصر وعلى ضفاف نيلها مرتزقاً بغلاتها

<<  <  ج:
ص:  >  >>