بالكتابة الروحانية فيُبعث القضاء من القلم والتقدير من اللوح. أما القضاء فيشتمل على مضمون أمر الواحد والتقدير يشتمل على مضمون التنزيل بقدر معلوم، ومنها يسبح إلى الملائكة التي في السموات يُقبض إلى الملائكة التي في الأرض ثم يحصل المقدر في الوجود). والحشر والنشر والثواب والعقاب منصبة كذلك على الروح فهي التي تسعد وتنعم أو تشقى وتألم. فليس هناك صراط ولا ميزان حسيان، بل تلك أمثلة وتصويرات يراد بها التعبير عن الحقيقة الروحية، وقد سار ابن سينا على طريقة الفارابي ففسر العرش تفسيراً فلكياً عقلياً، وصور الجنة والنار بصور روحية تناسب نعيم النفس وشقاءها
هذه هي محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين التي قام بها الفارابي وابن سينا. وإذا ما تتبعنا تاريخ الفلسفة وجدنا أن الإغريق من قديم احتفظوا بمكان للدين في مذاهبهم الفلسفية. وقد عنيت مدرسة الإسكندرية بهذه المسألة عناية خاصة، وكثيراً ما أثبت أفلوطين أن الأفكار الدينية لا تتعارض مع الآراء الفلسفية. إلا أن المسلمين قد برهنوا في هذا المضمار على مقدرة وكفاءة لم يسبقوا إليهما. ولئن كان رجال الكنيسة قبلهم قد أدخلوا بعض المبادئ الرواقية والأرسطية في تعاليمهم فانهم لم يوفقوا في أن يكونوا من ذلك مزيجاً صالحاً متناسق الأجزاء
بيد أن محاولة التوفيق التي قام بها الفارابي وابن سينا وإن تكن محكمة وممتازة على سابقتها لم ترق لدى الغزالي كما قلت لكم من قبل. وقد ألف كتابه تهافت الفلاسفة ليناقش فيه آراء الفلاسفة وينقضها جميعاً، ويحتوي هذا الكتاب على عشرين مسألة، ثمان منها تتعلق بالبارئ وصفاته، وأكبر مأخذ يأخذه الغزالي في هذا الجزء على فلاسفة الإسلام هو أنهم ألغوا الصفات وأنكروا علم الله بالجزئيات، وقد تهكم عليهم تهكما شنيعاً في هذا الصدد قائلا:(وليتعجب العاقل من طائفة يتعمقون في المعقولات بزعمهم، ثم ينتهي أخر نظرهم إلى أن رب الأرباب ومسبب الأسباب لا علم له أصلا بما يجري في العالم، وأي فرق بينه وبين الميت إلا في علمه بنفسه؟ وأي كمال في علمه بنفسه مع جهله بغيره؟ وهذا مذهب تغني صورته في الافتضاح عن الإطناب والإيضاح)، وفي ثماني مسائل أخرى يرد على فكرة الخلق التي ذهب إليها الفلاسفة مبيناً أنها ترمي إلى خلق صوري لا يكاد يبدو له أثر في الوجود. ثم ينتقل بعد هذا إلى خلود الروح فيبين في مسألتين أخريين أن الفلاسفة لم