الفلاسفة مادام الدين للشعب والفلسفة للخاصة. وكم عاب فيلسوف الأندلس على صاحب تهافت الفلاسفة تقديمه للجمهور بعض المشاكل العويصة التي لا يستطيع فهمها ولا استساغتها
بيد أن هجوم الغزالي كان عنيفاً، وصدمة الفلسفة على يديه كانت قوية. لهذا لم يفلح فيها علاج ابن رشد ولم يرفع من شأنها انتصار فيلسوف قرطبة لها، وبقيت مهملة منظورا إليها نظرة ازدراء واحتقار أو توجس وخيفة طوال السبعة قرون الأخيرة. وكأن حملة الغزالي صادفت هوى في تلك العقول الضعيفة التي لا تقوى على البحث والنظر، فرأت أن أيسر سبيل لديها أن تهجر الفلسفة وشؤونها وتحاربها بكل الوسائل ولست في حاجة لأن أذكركم بتلك السنة التي سار عليها مؤلفو هذه القرون المظلمة من التساؤل عن حكم الدين في كل فن من الفنون، هل دراسته واجبة أو مسنونة أو مستحية أو مكروهة أو محرمة. وكثير منكم يذكر هذه الأبيات المشهورة التي صدرت بها حواشي الكتب في القرنين الحادي عشر والثاني عشر:
إن مبادئ كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبه والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
فباسم الشرع حرمت علوم وأبيحت أخرى، وتحت تأثير هذه الرقابة أهملت أجزاء الفلسفة المختلفة، ولم يدرس منها إلا المنطق الذي كان نفسه موضع تحريم أو تحليل واستحباب أو إباحة. وقد عقد الأخضري أحد مناطقة القرن العاشر الهجري في سُلّمه فصلا عنوانه:(في جواز الاشتغال به) وتحت هذا العنوان يبين حكم الشرع في دراسة المنطق وآراء الباحثين في هذا الصدد، ويوضح ذلك في أبيات طريفة يلذ لي أن أسردها عليكم
والخلف في جواز الاشتغال ... به على ثلاثة أقوال
فابن الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحه ... جوازه لكامل القريحه
ممارس السنة والكتاب ... ليهتدي به إلى الصواب
والباحثون الأول ما كانوا يقفون عند نقطة كهذه، ولا يرون غضاضة عليهم في أن يدرسوا