أية مادة كيفما كان نوعها. والغزالي بوجه خاص زج بنفسه في المدارس والفرق الإسلامية المختلفة. فدرس العلوم الكلامية على اتساعها، واتصل بالباطنية وتعرف أسرارها، ولم يخش باساً من قراءة الكتب الفلسفية واعتناق الطرق الصوفية. ومعرفته بدقائق الفلسفة وجزئياتها لا تقل عن الفلاسفة المختصين أمثال ابن سينا وابن رشد. وما كان يضير أحداً في ذاك الزمان أن يقرأ شيئاً ويتفهمه، فإن ارتضاءه قبله وإلا نبذه، ولم يخطر ببالهم أن مادة ما تستطيع أن تهدم الدين أو تنتقص أصوله. فلما قصر الجهد وعجز الناس عن الدراسة والبحث لجأوا إلى حماية أنفسهم بوسائل سلبية واستتروا وراء حجاب واه من حرمة الدين أو كراهيته فجنوا على أنفسهم ودينهم في آن واحد. وهكذا شأن عقيدة لا يرجع تدهورها غالباً إلى نقص في طبيعتها، بل إلى ضعف معتنقيها وفساد عقولهم وعجزهم من مسايرة الزمن
يجدر بنا، أيها السادة، وقد أتممنا هذه النظرة التاريخية العجلى أن نستخلص منها درسا ينفع للحاضر. فإن الماضي لا يدرس للماضي فقط، بل لما يمليه من نصائح وعبر مفيدة في الحاضر والمستقبل، ونصيحة الليلة أن نفسح المجال للدراسة والبحث أيا كان نوعهما دون أن نخشى على الدين بأسا. لندع العلم يقرر قضاياه ويوضح نظرياته، فهو إن لم ينصر فلن يخذله، وإن لم يؤيده فلن يقوى على هدمه. والعلماء الذين يبدو عليهم أنهم تجردوا عن تقاليد الأديان هم أكثر الناس اصطداماً بالمشاكل الدينية. ولئن كان القرن الثامن عشر قد دفع بعض المفكرين، تحت تأثير النهضات العلمية، إلى التشبث بأهداب المذهب العقلي واطراح كثير من الحقائق الروحية والنقلية، لقد جاء القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحاضر مؤيدة للدين وواضعة إياه على أساس القوانين العلمية والنظم الاجتماعية. فأنصار مذهب البرجماتزم وعلى رأسهم جيمس ينادون بأن الحقيقة الدينية هي عماد الحقيقة العلمية، ذلك لأن الأولى نتيجة التجربة النفسية والوحي المباشر. وأصحاب المدرسة الاجتماعية الحديثة قد أثبتوا في جلاء أن جل النظم الاجتماعية، إن لم يكن كلها، نشأ في حجر الدين وتحت كنفه. فالعلم والدين متضافران إذن، أو على الأقل لا يستطيع واحد منهما أن يعدو على مكان الآخر. ومن الغريب أنه ما تجاهل باحث المبدأ الديني إلا واضطر للتسليم به أخيراً؛ ولا حارب رجال الدين علما إلا وانتهوا إلى دراسته بعد قليل.