اشتمل نظام من (الأوامر والنواهي) على جميع أبواب الحياة القانونيَّة حتى التي لم ينص القرآن عليها صراحة. وروح هذه (الشريعة المقدسة) تختلف أصلاً عن روح القوانين المدينة كالقانون الروماني مثلا. فأن أمثال هذا القانون تتناول قبل كل شيء الحقوق المشتقة من أفعال معينة ذات قيمة قانونية، على حين أن الشرائع المقدسة تعني الحكم على الأفعال من حيث أنها مباحة أو محظورة. وهذا بيّن من الاصطلاحات الفنية: إن التدرج العام لأعمال الإنسان من واجبة أو مفروضة ومندوبة ومباحة أو جائزة ومكروهة ومحظورة تعبر عن صفاتها الدينية والأخلاقية. ولكن كلمة الواجب لم تدل في الاصطلاح الجاهلي - كما رأينا - على المفروض بل دلّت على الصحيح وقد تستعمل في هذا المعنى أحياناً في كتب الفقه أيضاً: ونحن نشهد حقيقة على تراجع للعنصر القانوني المحض بتأثير القواعد الأخلاقية. حتى نفس نظام المصطلحات الدالة رأساً على أنواع الصفات القانونية وهي مشروع وصحيح ومكروه وفاسد وباطل إلى غير هذا، تأثرت بتلك النظرية الدينية: فالصفة العامة وهي المشروعية، مشروعية البيع مثلاً، تشتمل حكما من هذا النوع الديني الأخلاقي؛ ثم إننا نجد صفة الكراهة تطلق على أفعال قانونية مشروعة صحيحة يليها شيء من المنهي عنه. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن هذا النظام المدرج الثاني أقل تفصيلاً من التدرج الأول، وأن بعض المصطلحات الدالة على الصفات القانونية المحضة كاللازم والنافذ والبات قد بقى بلا تحديد حاسم دقيق. وأخيراً فأن اصطلاح (الجائز) أصبح مترادفاً لاصطلاح (الصحيح) ويدل على أن الأفعال التي يطلق عليها لا بأس بها من حيث التقدير الديني الأخلاقي فهي بهذه المثابة صحيحة. وإذا قيل إن أمان المسلم الواحد مثلاً جائز فمعنى ذلك من جهة أنه غير آثم في منحه هذا الأمان، ومن جانب آخر أنه لا اعتراض على هذا الفعل، وأنه من أجل ذلك يعتبر صحيحاً. ومن هذا كله يتضح ما للتقدير الديني الأخلاقي للأعمال من أهمية ومن أولوية على الصفات القانونية المحضة في الشرع الإسلامي. وليس هذا بأقل وضوحاً في نظام الأحكام الشرعية نفسها. فإن الجانب الأكبر من أحكام المعاقدات مثلا يتسلط عليه الميل إلى استخلاص كل النتائج من تحريم الربا والميسر؛ أما أحكام العقوبات فأنها لا تتناول إلا جانباً بسيطاً من الأفعال المحرمة، بحيث يكون للأوامر والنواهي صبغة أدنى إلى أن تكون أخلاقية منها إلى الصبغة القانونية. إن مصدراً من