مصادرنا الكبرى فيما يتعلق بهذا العصر هو على الرغم من تاريخه الأحدث قليلاً كتاب الموطأ لمالك بن أنس. إنه جدير بالذكر أن أقوال الفقهاء السابقين يتلو بعضها بعضاً في أبوابه التي تتصل بالأوامر الأخلاقية وبكافة الأحوال الشخصية والمواريث - تلك الأحكام التي ترى صبغتها الدينية بادية ظاهرة - في حين أن هذه الأقوال نادرة في كثير من الأبواب المتصلة بالقانون التجاري الذي كان بعيداً عن دائرة الأخلاق قليل الاكتراث له لا يثير مناقشات أهل الدين. فهذه الأبواب من جهتها تمتاز بتغلب مصطلحين فيها وهما السنة والإجماع. فمعنى السنة في كتاب الموطأ هو العرف والعادة المسنونة في المدينة، لا سنة رسول الله فقط، والفرق بينهما من جهة الاصطلاح ظاهر. أما الإجماع فمقتضاه في كتاب الموطأ غالباً أن سنة من السنن القانونية لم يستنكرها واحد من الأئمة لأسباب دينية أخلاقية. ويجب أن نذكر إلى جانب كتاب الموطأ لمالك بن أنس مصدراً آخر هاماً لذلك الدور من تاريخ الشرع الإسلامي، وهو كتاب اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري، فهو على الرغم من القليل الذي انتهى إلينا منه؛ أكثر دلالة من الكتاب الأول. مثال ذلك أن الطبري يعلمنا أنه كانت هنالك عشرة اختلافات أساسية بين مذهب سعيد بن المسيب (أشهر فقهاء المدينة السبعة) وإجماع مذاهب الأجيال التالية، وهو شيء لا يظهر من المواضع العديدة التي أورد مالك فيها من هذا المرجع تأييداً لآرائه الشخصية. وثمة مصدر ثالث رئيسي لدراسة هذا العصر، هو كتاب أخبار القضاة لأبي بكر وكيع القاضي (توفي سنة ثلثمائة وست) فهو جامع لأخبار قضاة الأمصار الكبرى في الدولة الإسلامية طائفة طائفة على الترتيب الزمني من الابتداء إلى عصر المؤلف مبيناً ظروف توليتهم وعزلهم مفصلاً الحوادث التي وقعت طوال ولايتهم مورداً قضاياهم الهامة وأحاديثهم وشعرهم إلى غير ذلك من المعلومات. ويفيدنا هذا الكتاب عن مظهر آخر للحياة التشريعية وهو تطور بالعمل القضائي، فأن قضايا هؤلاء القضاة الأقدمين وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين قد ساهمت مساهمة كبيرة في نمو الفقه. ولندع جانباً موادّ أخرى لم يتناولها البحث إلى الآن كتلك الموادّ التي يشتمل عليها تفسير ابن جرير الطبري الكبير، وننتقل إلى المصدر الهامّ الرابع لأبحاثنا عن ذلك العصر، ونعني به المعلومات الواردة في كتب الأحاديث وما يتعلّق بها. فقد أسلفنا القول بأن الفقهاء الأقدمين كانوا يأخذون القواعد التي كانوا يطبقونها على القانون