العزيز على رأس المائة الثانية من الهجرة، بدأ الاهتمام بتدوين السنة خوفاً عليها من الضياع، أو أن يدخل فيها ما ليس منها، وكان هذا الملك الصالح أول من أهتم بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة وهي مجمع رجال السنة، وكان أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم، أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه، فأني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء
ولكن هذا التدوين جاء متأخراً عن أوانه، ولم يحصل إلا بعد تشعب الأحاديث النبوية واختلافها اختلافا كبيراً يرجع بعضه إلى اختلاف الأمصار، وانقطاع بعضها عن بعض في تلك العصور فسار إلى كل مصر بمن نزل فيه من الصحابة من تلك الأحاديث ما لم يسر إلى المصر الآخر، وقد كان منها ما يحفظ بلفظه، ومنها ما يروى بمعناه على حسب ما فهمه السامع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأفهام تختلف في ذلك، بل قد يختلف فيه السمع نفسه؛ كما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أخبرته أنها سمعت عائشة تقول - وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي - فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنكم لتبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها
ويرجع بعض ذلك الاختلاف أيضاً إلى ما حصل من انقسام المسلمين ذلك الانقسام السياسي - إلى جماعية وشيعة وخوارج - واستفحال أمر تلك الخصومة السياسية فعمل ذلك في التبعيد بين إفهام المسلمين ما لم يعمله اختلاف الأمصار فيها
وقد كان الخير كل الخير تدوين السنة في الزمن الذي جمع فيه القرآن الكريم، ولم يكن هناك خوف بعد جمع القرآن أن تلتبس به السنة النبوية، أو أن نقع من ذلك فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبلنا. لأن أهل الكتاب لم يكتبوا كتاب الله كما كتبناه؛ وإنما كتبوا تلك الكتب وأكبوا عليها، فالفرق في ذلك كبير بيننا وبينهم، فلو أن السنة النبوية دونت في ذلك العهد لكان لنا منها سنة متفق عليها، أو تقرب على الأقل مسافة الخلف بيننا فيها
وإذا كنا قد فاتنا من هذه الغاية الحميدة ما فاتنا، فقد يكون في هذا الخلاف في السنة النبوية خير كبير لنا، وقد عد هذا الخلاف فعلاً رحمة بالناس؛ وقيل إن اختلاف الأئمة رحمة