عبرة وعظمة وجمالاً وحباً وإكباراً دون استعانة بعقل أو خيال، فلست إنساناً ولست من الإنسانية في شيء
انظر إلى هذا الذي ذاق اليتم جنيناً إن كان للأجنة أن يذوقوا المعاني والآلام، ثم لم يكد يستقبل الحياة ويتقدم في الصبى حتى ذاق اليتم مرة أخرى، ففقد أمه بعد أن فقد أباه، ثم لم يكد يتقدم خطوات أخرى في الصبى حتى ذاق اليتم مرة ثالثة ففقد جده بعد أن فقد أبويه، ثم ألحت عليه حياة فيها شدة وجهد، وفيها حرمان وفقر، وفيها ضيق وضنك، ثم تظاهرت هذه الآلام كلها على نفسه الكريمة الناشئة فلم تستطع أن تبلغها ولا أن تنال منها، لأن الله قد قطع الأسباب بين هذه النفس المصفاة وبين البؤس والشقاء. ثم امض معه خارجاً من الصبى داخلاً في الشباب متقدماً فيه، فإذا الحياة كما هي شديدة شاقة ثقيلة ضيقة، ولكنه مبتسم الشباب كما كان مبتسم الصبى، وادع النفس رجلاً كما كان وادع النفس طفلاً. إنه يجد ويعمل، إنه يكد ويكدح، إن الحياة تبسم له أحياناً، إن الناس من حوله يحبونه ويقدرونه ويكبرونه ويثقون به، ويطمئنون إليه ويلتمسون به العافية والسلم، ويحكمونه فيما شجر بينهم من خلاف، فلا يعرضه ذلك لبطر ولا لأشر، لأن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين ما يشوب حياة الناس من الأشر والبطر والغرور. ثم انظر إليه وقد اختاره الله لخير ما يؤثر به عبداً من عباده، وحمله أثقل أمانة حملها أحداً من خلقه، فإذا هو يلقي هذا العبء الثقيل جلداً له، صبوراً عليه، ناهضاً به ماضياً فيه، لا يعرف كلالاً ولا ملالاً ولا فتوراً، لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين ما يشوه حياة الناس من الكلال والملال والفتور
ثم انظر إليه يذوق الثكل بعد أن ذاق اليتم، ويمتحن في نفسه وسمعته، ويمتحن في صحبه وأوّلي نصره، ويمتحن في بنيه، ثم يمتحن في زوجه التي جعلها الله له رحمة يسكن إليها ويعتز بها، ثم يمتحن في دينه، ثم يمتحن في كل شيء، ثم يمتحن في كل إنسان، فإذا هو كما هو، باسم الكهولة كما كان باسم الشباب وكما كان باسم الصبى، لا يعرف الضعف ولا اليأس ولا هذا الاكتئاب العقيم إليه سبيلاً، لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين الضعف واليأس والاكتئاب العقيم
ثم انظر إليه وقد أنكر قومه وأنكره قومه، وقد ضاقت به مكة وضاق به ما حول مكة، وقد