ففي رواية بيراندللو المسماة اكساء العارين يرسم لنا بطلته وهي أرملة تسمى أرزيليا حاولت أن تحمل الناس على الاعتقاد بأن محاولتها الانتحار كانت بسبب هجر خطيبها، ولكن الواقع أنها هي التي خدعته. وقد حاولت الانتحار لأنها ضبطت في حالة مريبة مع رب الأسرة الذي تعمل مربية لأولاده. وفي خلال ذلك مات الطفل الذي عهد إليها بتربيته تحت تأثير حادث خفي، وقد أنقذت أرزيليا من الانتحار بأعجوبة. فتألب الصحفيون حولها وأخذوا يمطرونها بوابل من الأسئلة، لأن الرأي العام مهتم بمسألتها، ولكن بعد فوات زمن طويل جعل الناس يستوضحونها الأسباب التي حملتها على الانتحار، فلم يسعها أمام إلحاحهم سوى الاعتراف بالحقيقة والبوح بالسر، وعندئذ سقط القناع، وأمام حرج موقفها وتبكيت الضمير عاودت الانتحار وفي هذه المرة نجحت
فتأثير الحادث الذي سمعه بيراندللو وهو في حداثته من أبيه كان لا يزال لاصقاً بذهنه، فلم يجد بدا من أن يصوغه في قالب روائي وأن يخلع عليه طريقته في تأليف مسرحياته واضعاً أشخاصه في حالة إبهام وغموض وتجلد أمام الآلام، مسدلا القناع على وجوههم، ولكن هذا القناع لا يلبث أن يمزقه بعد حين ليعيد إليهم شخصياتهم الحقيقية
أما في روايته (المرحوم ماثياس باسكال) ففيها لأول مرة يعالج الخيال والواقع والحياة والموت والجنون والحكمة، وهي تدور حول تحليل شخصية رجل فقير يدعى ماثياس باسكال هرب من زوجه وحماته لشراسة طبعهما، قاصداً الهجرة إلى أمريكا، غير أنه وقف في طريقه بمونت كارلو ليجرب حظه على مائدة الروليت فاسعفه الحظ وربح أرباحا طائلة، وحدث في اليوم التالي لاختفائه أن وجدت جثة غريق مجهول في النهر فزعم أهل قريته أنها جثة ماثياس ودفن على هذا الزعم وتسربت الحادثة إلى ماثياس عن طريق الصحف وهو في مونت كارلو فقرر أن يعيش مختفيا وأن يتجرد من شخصيته الحقيقية ليعيش متحررا من الروابط الاجتماعية، لكنه بعد أن يتعرى من شخصيته يفقد توازنه بدليل أنه يقول:(إن الشيء الوحيد الذي أؤكده هو أنني كنت أدعى ماثياس باسكال). بل ربما نسى أنه كان يدعي بهذا الاسم!
وكثيراً ما يعيب النقدة على بيراندللو أنه يغرق في الخيال وفي عمق التفكير، ولكن في مؤلفات هذا الكاتب المتدفق الثائر نجد أن فنه سبق الحياة في الكشف عن حقائق ملموسة.