النجاح والظفر أينما حلت؛ وكان مستقرها الأخير في مدينة درسدن حيث عينها مختار سكسونية ممثلة مدى الحياة، وهنالك أنفقت بقية حياتها حتى توفيت سنة ١٧٧٦
وكانت زانيتا قد رزقت غير جاكومو بثلاثة أبناء آخرين وابنتين، وتركتهم جميعاً بالبندقية لدى والدتها مارسيا فاروزي؛ وكانت مارسيا امرأة بسيطة جاهلة ولكن ذكية مخلصة، فكرست كل نشاطها وعنايتها لتربية أحفادها ولاسيما كبيرهم جاكومو؛ ويشير كازانوفا في مذكراته إلى ذلك الحرمان من عطف أبويه، ويقول لنا إنهما لم يكلماه قط، ويشير أيضاً إلى عطف جدته ورعايتها ويقول لنا إنه كان طوال حياته يذكرها بالحب والعرفان والإجلال
ونشأ جاكومو ضعيفاً سقيما، ولكن تبدو عليه إمارات الذكاء والنجابة؛ وكان للأسرة صديق من أعيان المدينة يدعى جورجو بافو، فاهتم بأمر الصبي العليل؛ وكان بافو جوادا طيب القلب، ولكن فاسد الخلال والسيرة؛ وكان شاعرا، ولكن شعره يفيض تهتكا وفجورا؛ فنصح بإرسال الصبي إلى بادوا ليتعلم في معاهدها ويستفيد من هوائها؛ وكانت زانيتا والدة جاكومو يومئذ في البندقية، فنزلت عند هذا النصح، وحملت جاكومو إلى بادوا، ورتبت مقامه هنالك؛ وأقام جاكومو مدى حين عند امرأة سلافية، ولكن ما لبث أن عاف المكث لديها لسوء المعاملة ورداءة المسكن والطعام، ثم نقل على أثر ذلك إلى منزل معلمه الأب جوزّي، فارتاحت نفسه لمقامه الجديد، وأقام لدى أستاذه منعما مكرما
وقضى كازانوفا بضعة أعوام عند معلمه، ودرس قليلا من اللاتينية واليونانية والنحو. وكان تقدمه سريعاً حتى أن الأب جوزي ما لبث أن اختاره لمعاونته في التدريس؛ وكان كازانوفا قد ناهز يومئذ الخامسة عشرة، وأخذت تبدو عليه إمارات الاضطرام الكامنة في جوانحه والتي ورثها عن والديه، فبدأ يقرأ الكتب المثيرة، ويزعج معلمه بمختلف الأسئلة المحرجة، ويحدج أخت معلمه بتينا - وهي فتاة في نحو العشرين من عمرها - بنظرات ملتهبة. ولما انتهت دراسته الابتدائية، دخل مدرسة الحقوق في جامعة بادوا الشهيرة، وأطلق لنفسه عنان الحرية، وأخذ يغشي دور اللهو والميسر، فانزعج معلمه، وانزعجت جدته وبادرت إلى بادوا وصحبته معها إلى البندقية، وهنالك استأنف دراسته
وفي البندقية تفتحت غرائزه وأهواؤه، وانكب على صنوف اللهو؛ ولكنه مع ذلك كان يتذوق دراسته وحياته العلمية، وكان ذلك الفتى اليافع الذي يضطرم ظمأ إلى اللهو والمرح،