يضطرم في نفس الوقت ظمأ إلى العرفان والدرس؛ وكان في الثامنة عشرة يأخذ بقسط حسن من الأدب والفلسفة والمبادئ العلمية، ولم يكن خلال عبثه ولهوه ليغضي عن التفكير في مستقبله؛ فلم يمض سوى قليل على عوده إلى البندقية حتى استطاع أن ينتظم في سلك رجال الدين وأن يحصل على وظيفة دينية صغيرة. أجل استهل كازانوفا حياته العملية قساً، وهو الذي خاض فيما بعد غماراً من اللهو والفجور قلما يخوضها بشر! ولم يكن ذلك منه ورعاً أو رغبة في خدمة الدين، ولكن الانضواء تحت لواء الكنيسة كان يومئذ وسيلة فريدة لأبناء الشعب الذين يطمحون إلى مستقبل ما؛ وكان ذلك المنصب المتواضع الذي لا يحتم عليه الارتباط بعهد الكنيسة، يفتح له كثيراً من الأبواب المغلقة، ويحقق له كثيراً من المزايا التي تعاونه على التقدم في سبيل الحياة
ولم يمض سوى قليل حتى استطاع كازانوفا أن يجوز إلى المجتمع الرفيع وأن يعترف بكثير من الكبراء والنبلاء؛ وكان بين هؤلاء، غير صديقه وحاميه القديم بافو، سيد يدعى مالبيرو، وهو شيخ سابق، وثري منعم، يعيش في قصر فخم، ويجمع حوله جمهرة من الخلان الظرفاء، يتسامرون ويتحدثون عن اللهو والنساء والحب، كما يتحدثون عن السياسة والمسرح؛ وألفى مالبيرو في القس الفتى رفيقاً مؤنساً فاصطفاه واتخذه سميره وخله الحميم ومعاونه على تنظيم حفلاته الأنيقة؛ وكان كازانوفا في الواقع يتمتع في هذا الميدان بكثير من حسن الذوق والشمائل الرقيقة، فيتقدم لخدمة السيدات برشاقة ويخلب ألبابهن بظرفه، ويسبغ بحركاته وأحاديثه على الحفل كله مسحة من البهجة والرواء
وكانت البندقية يومئذ - في منتصف القرن الثامن عشر - منزل اللهو والمرح، تموج في الليل بالمسارح ودور اللهو، وتغمرها لمحة ساطعة من بهائها السابق؛ وكان الحب يرفرف على أرجائها وتنساب القوارب النحيلة في شوارعها المائية تحمل أزواج المحبين تحت جنح الظلام وأضواء القمر، وتقرع كؤوس الهوى في كل ناحية، ويسود الحبور والبهجة؛ وكان كازانوفا يخوض هذه الغمار المرحة سعيدا منعماً، ويستمرئ هذه المناظر البديعة التي تقدمها إليه المدينة التالدة، في ظل الرعاية التي يشمله بها صديقه وحاميه السيد مالبيرو
بيد أنه لم يلبث أن فقد هذه الرعاية. ذلك أنه كان للسيد مالبيرو صاحبة فتية حسناء تدعى تيريز، وكان كازانوفا يرنو إليها ويحوم حولها، ففي ذات يوم استطاع أن ينفرد بها في أحد