أوربا في بلادنا أكثر اتصالا بثقافة بلادنا التقليدية من الوجهة المعاشية من الطالب المتخرج في كلية عليا من كلياتنا. وفي هذا سر نجاحه العملي وسر عطل شبابنا عن العمل. ولهذا يتحتم علينا أن ندعو إلى نشر الصناعات، ولكن الصناعات التي تتصل أو شيء بمنتوجاتنا الزراعية، وأن نصدف عن غيرها لأنها لا تفيدنا شيئاً في حياتنا المعاشية أو تثبيت حالاتنا الاجتماعية المرتجة الشاذة. وبخاصة إذا وعينا أن دور التعليم على اختلاف نواحيها تخرج كل عام عدداً من المتعلمين تعليما غير عملي زائداً عن حاجة البلاد.
وإنما يجب أن يتجه التعليم في الحقول إلى غاية أخلاقية، محصلها أن يغرس في طبيعة المتعلمين تصور جديد في شرف المهنة التقليدية التي ورثناها عن أسلافنا، ألا وهي الزراعة. فإن التلميذ يجب أن يضع يده في كل عمل يمكن أن يؤديه الفلاح بنفسه، وأن يتصل من طريق عضلاته بكل ما تتطلب مهنة الزراعة من أعمال جسمانية، وأنه لا يرى في ذلك شيئاً خادشاً لعزته أو مذلا لنفسه
أورثتنا الحكم التركي المشؤوم عادة احتقار الفلاح، لأن كلمة (فلاح) كانت توازي عند التركي أحط ألفاظ الشتم وأشنع كلمات السباب. ولطول الأمد الذي اعتدنا أن نسمع فيه هذه الكلمة مؤدية ذلك المعنى غرس في طبيعة المصريين أنفسهم، بطريق التكرار ومستوعيات العقل الباطن، ميل إلى احتقار الفلاح واحتقار مهنته، والاعتقاد بأن العمل اليدوي في الزراعة إنما هو عقاب نفسي مرهق للنفس خادش للذة. وأنت ترى أن الأعراب في مصر قد انتحلوا هذه العادة. فإنك إذا سألت أعرابياً أفلاح أنت؟ أجابك على الفور:(كلا! أنا عربي!) ولكن بنبرات تدل على أنه يعتبر الكلمة اعتداء على مكانته السامية، وقد يكون من خشاش الناس ومن ذؤبان العرب، مهلهل الثياب قذر المنظر والمخبر.
ولم يقف الأمر عند هذا، بل إنك تجد أن الفلاح إذا قضى خدمته العسكرية وسرح من الجيش أنف أن يعود إلى الحقل أو أن يحمل المحراث أو يقود الماشية؛ فإذا عجز عن أن يكون شرطياً، قضى وقته في القرية عاطلا أو محترفاً حرفة أخرى غير الزراعة، فتجده نجاراً أو حداداً لا يملك قوت يومه. وقد يتطرف بعضهم في احتقار مهنة آبائه فيغشى المجالس عازفاً على قيثارة، لأنه كان في موسيقى الجيش، مستجدياً بها، كأنما هو يعتقد أن الاستجداء بالعزف على قيثارة أشرف من العمل في الحقول. ولاشك في أن هذه الظاهرة قد