على العموم بتحفظ شبيه بالتحفظ الذي ينبغي أن تقابل به كتب الاختلاف الأحدث عهداً، حتى ولو كان أولئك المؤلفون من أصحاب المذهب الذي يتحدثون عن أئمته. فإنا نشاهد في المذاهب ابتداء من القرن الخامس افتقاراً للروايات فيما يتعلق بأقوال أصاحبها الأولين، وهو مما يجعل دراسة مؤلفاتهم الأصلية أحرى وأوجب. وإني لأستمدّ أمثلتي من كتاب المخارج في الحيل لمحمد بن الحسن الشيباني السالف الذكر الذي لا ريب في صحته مقارناً له بشرح السرخسي المتأخر لأقوال محمد بن الحسن المروية في كتاب المبسوط. فالشيباني يقول في مسألة معينة على وجه الإجمال:(لا آمن أن يبرئه بعض الفقهاء.) ولكن السرخسي يعترف بأنه لا علم له بمن قال بهذا القول. والشيباني يقول في التحليل: إذا قال واحد منهم هذه المقالة (أي لو قالت الزوجة تزوجني فحللني، أو قال الزوج الأول تزوج هذه المرأة فحللها لي، أو قال الزوج الثاني أتزوجك فأحلك لزوجك الأول) لم تحل للزوج بهذا النكاح الثاني)؛ فالسرخسي في تعليقاته على هذا الكلام يقول: إن النكاح الثاني عند الشيباني صحيح، لكن التحليل في هذه الظروف لا يحصل، في حين أن النكاح الثاني عند أبي يوسف فاسد غير صحيح؛ ولكن السرخسي في موضع آخر ينسب القول الأول إلى أبي يوسف، والقول الثاني إلى محمد بن الحسن الشيباني. ويقول السرخسي في مسألة أخرى إنه يُنسَب إلى أبي يوسف قولان متناقضان دون أن يستطاع اعتبار أحدهما سابقاً، والآخر متأخراً، فهو مع ذلك يجهد نفسه في التوفيق بين القولين بوجه مفتعل. ويقول السرخسي في الحيل المستعملة لمنع الشفعة:(وعند محمد رحمه الله هو مكروه أشد الكراهة) وهذا ليس صحيحاً لأن الشيباني قد جمع أمثال تلك الحيل في باب طويل من كتابه المتقدم ذكره نقرأ فيه كلاماً كهذا: (أرأيت رجلا يريد أن يشتري داراً، ويخاف أن يأخذها جارها بالشفعة فكره أن يمنعه من ذلك فيظلمه، وكره أن يعطيه الدار فيدخل عليه ما يُكرَه. هل عندك في ذلك حيلة؟ قال: نعم الخ). وإليكم مسألة تدل على أن رأياً نُسب خطأ إلى أبي حنيفة قد ظفر بأن يصبح مسلم به في المذهب كله: فنقرأ في الفتاوي العالمكيرية: (فاعلم بأن الوقف على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصح مضافاً إلى ما بعد الموت بطريق الوصية، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله، ومحفوظنا أن الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله صحيح إذا كان مضافا إلى ما بعد الموت أو كان موصى به) ومع ذلك فالخبر الذي ذكره