الخصاف هو الصحيح، لأن هذا يظهر من قول الشيباني نفسه في كتاب المخارج في الحيل. وقد أمكن أيضاً أن تتسرب أخبار ملفقة إلى حواشي كتب الشيباني حتى في زمن قديم جداً، وينبغي لهذا كله أن يتحاشى المرء قبول شهادة كتب أحدث عهداً في أقوال الأئمة الأقدمين من دون تمحيص. وسبب تلك الأغلاط يرجع قبل كل شيء إلى تضاؤل الاهتمام بآراء فقدت أهميتها العملية بعد التدوين النهائي للأحكام في المذاهب، ويرجع أيضاً إلى الظن الطبيعي أن تلك الأحكام المدونة هي عين الآراء الشخصية للأئمة الأقدمين، ويرجع أخيراً إلى استبدال عبارات مثل (في قياس قول أبي حنيفة) بعبارات أخرى مثل (في قول أبي حنيفة) فحسب، وهو شيء نراه حتى في الكتب القديمة جداً
وأخرى المسائل التي سنبحث عنها هي مسألة القانون العرفي في بلاد الإسلام، فبينا أن العلاقة بين الأحكام الشرعية والأحكام العرفية - كما رأينا - وجهة مركزية من تطور الفقه نفسه في الأدوار الأقدم عهداً فإن هذه العلاقة تصبح بعد ذلك عندما استقر الفقه في صورته النهائية مطلباً مستقلاً. ومن بينات القوة الروحية العظيمة التي استمتعت بها الشريعة أنها بلغت حد فرض نفسها على القانون العرفي؛ وإن كان هذا القانون قد بلغ من ناحيته أو كاد يبلغ حد احتكار العمل القانوني من الوجهة المادية؛ وهذا باد من أن الناس تحققوا وجود قانون عرفي يعارض كثيراً من الأحكام الشرعية، وأنهم فسروا هذا من الوجهة التاريخية بأن الأجيال المتأخرة لم تبلغ شأن السلف الصالح، ومن الوجهة الأخلاقية بمبدأ الضرورة التي أغنت عن العمل بالأحكام الشرعية. وعلى هذا النسق أوجد عالم مصري معاصر فيما يتعلق بالخلافة التي تناءى تاريخها أصلا عن قواعد الشرع، قواعدَ ثانوية موجهة إلى التطبيق العملي ولكنها مع ذلك مصنوعة على طراز تلك القواعد الشرعية. فأما ما يتعلق بالفقه فقد رأى أهله أن يوفقوا بينه وبين العرف على قدر المستطاع مما أفضى في التطور المتأخر للمذهب المالكي المغربي خصوصاً إلى أن يجيزوا عدة تصرفات عرفية لم تكن تعرفها الشريعة من قبل. أما العمل العرفي فكثيراً ما حاول أصحابه أن يحتفظوا بمظاهر المطابقة للشريعة على الأقل، في حين أن حقائق الأمور كانت بعيدة عنها بعداً شاسعاً؛ وهكذا أقاموا في حالة أخذ السارق والسكران عند ارتكاب الجريمة حدود السرقة والشرب رأساً معتقدين اعتقاداً صميما أنهم يطبقون الشريعة ولكن دون أن يعنوا بالإجراءات الدقيقة