ولقد هم السبكي مرة أن يستقيل من منصبه، وكان ذلك في ولاية ايدغمش سنة ٧٤٢، وكان قد بلغ في معاندته وإيذائه مبلغا كبيرا. ولكنه يظهر أنه رأى في هذه الاستقالة تحقيقا لشهوته، وتخليا عن واجبه، فعدل عنها واستمر في مجاهدته. وأراد ايدغمش أن يتخلص منه، وأن يلتجئ إلى دعوى الدين في محاربته، فجعل يجمع الفقهاء للفتوى عليه - وما كانت تعوزهم مقدمات الإفتاء - وكاد الأمر يتم للنائب لولا أن جاء (البريدي) إلى الشيخ يطلبه إلى باب السلطان في أمر من الأمور، فذهب إلى مصر، وهناك أوجد أزمة غير هينة الحل؛ فقد أصرّ على ألا يعود إلى الشام وفيها ايدغمش، وليس من اليسير عزل نائب من أجل قاض مهما علت منزلته. ولكن القدر كان أسرع إلى حل هذا الأزمة وأقضى فيها من كل تدبير وقضاء، فقد جاء الخبر بموت ايدغمش موت الفجاءة، وعاد الشيخ إلى دمشق يعيد سيرة الحق المجاهد الظافر
وممن آذاه وأضجره نائب اسمه (أرغون شاه)، تولى نيابة الشام سنة ٧٤٨، ويروى أن الشيخ كان يمسك بطرزه ويقول له:(يا أمير! أنا أموت وأنت تموت!) وتأمل أنت في هذا قوة الإيمان والجرأة في الحق. وقد ظل ذلك الرجل في نيابة الشام سنتين ثم قتل
كان آخر هؤلاء النواب أرغون الكاملي، وكان رجلا فظا غليظ القلب. وقد حكى تاج الدين أن أباه (حكم مرة في واقعة جرت وصمم فيها، وعانده أرغون الكاملي نائب الشام وكاد الأمر يطلخّم شاما ومصر، فقد ذكر القاضي صلاح الدين الصفدي أنه عبر إليه وقال: يا مولانا! لقد أعذرت، ووفيت ما عليك؛ وهؤلاء ما يعملون الحق؛ فلم تلق بنفسك إلى التهلكة وتعاديهم؟ فتأمل ملياً ثم قال:
فليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
ويا عجبا لتلك الشيخوخة التي لا تزيدها الأيام إلا صلابة وقوة، وذلك الإيمان الذي لا تزيده مظاهر القوة إلا غلبة واستعلاء
وهكذا كانت حياة تقي الدين السبكي في الشام: ملجأ للحق يلوذ به ويعتصم، ومثالا للخلق القوي الذي لا يتثلم، وآية من آيات الله على قوة الروح الإنسانية متى خلصت من الرعونات والترهات فلا يغلبها غالب