تشبه في ضعتها الأحجار التي كانوا يعبدونها أيام جاهليتهم، ومن رومان تركوا وراءهم دينهم الصحيح وأخذوا يعبدون شهواتهم فعبدوا الخمر وعبدوا النساء وعبدوا المال وعبدوا الجاه، وما كل ذلك إلا أصنام كأصنامهم التي حطموها بالأمس، وما هي إلا ضرب آخر من ضروب النار التي يعبدها المجوس تشب بين جوانحهم. هؤلاء الفرس وهؤلاء الرومان الذين كانوا بالأمس القريب، المثل الأعلى للعرب، والذين كانوا يرون في أعماق نفوسهم أنهم أنفسهم عبيد، وأن الفرس والروم سادتهم، وأنهم سوقة والفرس والروم ملوكهم، وأنهم أذلة والفرس والروم أعزة، وأنهم فقراء وأمل الآمل منهم أن ينال من متاجرته مع الفرس والروم شيئاً من فتاتهم ومما تناثر من أيديهم؛ هؤلاء الفرس والروم أصبحوا في نظر العربي المسلم أسرى عقائد فاسدة، وأسرى شهوات وضيعة، وأن مالهم وجاههم وعدتهم وزينتهم لا تساوي شيئاً بجانب صحة عقيدتهم هم، لقد كانوا ينظرون إليهم من غواصة فيحسدونهم على استنشاق الهواء على ظهر الأرض، فأصبحوا ينظرون إليهم من طيارة عالية جداً فيرونهم حشرات حقيرة تتقاتل على متع دنيئة، ويرونهم المثل الأدنى للإنسانية. وقد كانوا المثل الأعلى، وأنهم أحق بالعطف عليهم والأخذ بيدهم، وقد كانوا من قبل يستجدونهم ويستذلون لهم ويخطبون ودهم. لم يقلب هذا الوضع عند العرب إلا العقيدة، وكفى بها ثورة: ثورة في العقل وفي القلب وفي الخلق جعلتهم كأنهم خلق آخر
هذه العقيدة بما أضاءت وبما بعثت من حكمة جعلتهم فوق العلم. أن شئت فانظر إلى عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة، وسعد ابن أبي وقاص وأمثالهم - ماذا كانت ثقافتهم العلمية بالمعنى الذي نفهمه الآن؟ كانت لا شيء، أو كانت ضعيفة كل الضعف، فليسوا على علم واسع بقوانين الحساب والهندسة، ولا بالجغرافية، ولا بشيء من فروع العلم، ولكن أضاءت الحكمة أذهانهم وقلوبهم ففاقت العلم؛ وإلا فكيف استطاع عمر بن الخطاب - مثلاً - أن يدير هو وأعوانه مملكة الفرس والروم، وقد بلغتا في الحضارة شأواً بعيداً، يعرف أهلهما الجغرافية معرفة واسعة، ويؤسسون المملكة على نظم إدارية وحربية دقيقة، وعندهم علم وأدب وفن. لو عهد بإقليم من أقاليم الفرس والروم إلى عمر في الجاهلية لحار في إدارته وارتبك، ولساسه كما يرعى الشاه والإبل، ولكنه الإسلام وما بعث من حكمة غير نظره إلى الأشياء وجعله ينفذ ببصيرته إلى نظم الفرس والروم فيدرك منها الصالح وغير الصالح،