تقل إن قلت عن خُمس آيات القرآن، ولم تلق ناحية من نواحي المدنية مثل هذا التوكيد في الإسلام إلا ناحية الأخذ بالعدل والإحسان في المعاملة؛ فكأن المدنية في الإسلام شطران: شطر يقوم على العلم وشطر يقوم على العدل، ومن وراء ذلك كله مخافة الله ومحبته، لا غنى لأهل المدنية عن هذين إن أرادوا لها البقاء. وعلى كل حال فإن حث الإنسان في نحو خمس القرآن على دراسة الفطرة أريد به على الأخص حثه على عبادة الله عن طريق تلك الدراسة وعن طريق شكره سبحانه على ما ستثمر تلك الدراسة من ثمرات. وهذا لا يقلل شيئاً من شأن العلم في الإسلام بل يزيده، ثم هو أبلغ في الدلالة على أن العلم في الإسلام جزء من الدين.
على أن أمر التوافق بين العلم والإسلام قد جاوز الإجمال إلى التفاصيل: جاوز قرآنية الموضوع والاسم إلى قرآنية الروح والطريقة. فروح العلم وطريقته منطبقة تماما على ما جاء به القرآن
فأما روح العلم التي هي في صميمها التجرد للحق والصدق فيه والاستمساك به والتعاون عليه، فهي من روح الإسلام من غير شك، إذ الإسلام كله ليس إلا أمرا بالحق وتجرد له وجهادا فيه، وما لقيه الحق من الإكبار في العلم لا يزيد شيئا عما لقيه الحق من الإكبار في القرآن
وإذا كان هناك فرق بين الاثنين فهو لا يتعلق بذاتهما ولكن بامتداد سلطانهما؛ فروح العلم مقصورة طبعا على الميادين التجريبية التي قصر العلم عليها نفسه؛ لكن روح الإسلام تشمل بسلطانها كل ميادين حياة الإنسان العلمي منها والاجتماعي، ما يمكن إخضاعه للتجارب العلمية منها وما لا يمكن
وأما طريقة العلم في طلب الحق فإليها يرجع فضل العلم في هذا العصر على مثله في سابق العصور. لقد كان من بين علماء تلك العصور من يحبون الحق، ويعملون له، ويحرصون عليه، كما يحبه ويعمل له ويحرص عليه علماء اليوم، لكنهم لم يوفقوا إلى نظام علمي شامل يضمن الوصول إلى الحق ويضمن على الأخص عدم قبول الباطل على أنه حق. فهذا النظام الذي يحسن التمييز بين الحق والباطل، ويضمن من نفسه أن ينفي الباطل ويثبت الحق، هو الفارق المميز بين العلم الحاضر والعلم الماضي، وهو المفخرة الحقيقية