هذا النظام لم يضعه شخص ولم تضعه هيئة، ولكن نشأ بالتدريج بنشأة العلم الحديث حين أخذ العلماء يجعلون وجهتهم ابتغاء الحقيقة لا ابتغاء المنفعة، وحين أرادوا في تلمسهم سنن الفطرة أن يتجنبوا مناشئ الخطأ في العلم القديم، ويصححوا الوجهة في العصر الذي ظهر تطور العلم فيه
وللمقارنة بين الأصول التي قام عليها هذا النظام والأصول التي تناظرها فيما جاء به الدين يحسن تقسيم أصول النظام العلمي إلى قسمين: قسم يتعلق بنفس الفطرة التي ستكون موضوع العلم، وقسم يتعلق بطريقة النظر والبحث عن أسرار تلك الفطرة
فأما ما تعلق بنفس الفطرة وجد العلماء أنفسهم مضطرين إلى القول بأصول ثلاثة: أصل استقلال الفطرة، وأصل اطراد الفطرة، وأصل انسجام الفطرة أو استحالة الخلاف بين جزئياتها. فأصل استقلال الفطرة يعلن استقلال الفطرة عن الإنسان، فلا يستطيع ساحر ولا كاهن أن يغير من مجراها أو يعدل من قوانينها، ولا تتغير هي تأثراً بما يجري لأي إنسان؛ وأصل اطراد الفطرة يعلن استقلال الفطرة عن الزمان، فما يثبت من سننها في وقت فلابد أن يكون موجوداً من قبل، وسيظل موجوداً في المستقبل، لا يلحقه تبديل ولا تغيير؛ وأصل انسجام الفطرة يعلن استحالة التناقض بين الحقائق، فلا يمكن أن ينقض حق حقاً أينما كان وكيفما ظهر، في الأرض أو في السماء، وما يناقض حقاً إذن فهو باطل يجب أن ينبذ ولا ينظر إليه
فأما الأصل الأول فكان ضرورياً لصيانة العلم وتحرير العقل من دجل الدجالين، وإعداده لطلب الحق وتلقيه، وهو أصل ليس هناك اليوم من يجادل فيه. وأما الأصلان الآخران فهما كما ترى ضروريان لوجود العلم واطراد نموه، لا يمكن بدونهما نظر ولا بحث ولا استقراء ولا استدلال. لكن من العجيب أن العلم عاجز عن إثباتهما. إذ أقصى ما يستطيع أن يقوله هو أنه اعتمد عليهما قروناً معدودة فبررت النتائج الباهرة التي وصل إليها ذلك الاعتماد، فهو لذلك سيستمر معتمداً عليهما إذ ليس هنالك ما يدعوا إلى الشك فيهما فيما يتعلق بالمستقبل أو الماضي. لكن الفلسفة لا تقنع من العلم بهذا الجواب، وتواجه بما فيه من ضعف، وتزعم له أن نجاح الاعتماد على ذينك الأصلين قروناً لا يثبت صحتهما إلا في