تلك القرون. وأما فيما قبل ذلك وما بعد ذلك فلا يستطيع العلم أن يجزم بصحتهما، وإذن فلا يحق له أن يطمئن كل الاطمئنان إليهما. لكن العلم يمضي على اطمئنانه لا يبالي بما توجهه الفلسفة إلى أصليه هذين من نقد وتشكيك، لأنه من ناحية لا يرى فائدة عملية في الإصغاء إلى هذا النقد، ولأنه من ناحية أخرى يرى وجوده ذاته منوطاً بصحة هذين الأصلين، لو شك فيهما لحكم على نفسه بالفناء
ومن البديهي أن الحكم بين العلم والفلسفة في هذه القضية لا يستطيعه إلا الذي بيده أمر الماضي والمستقبل، فاطر الفطرة وخالق الخلق سبحانه، وقد حكم سبحانه للعلم منذ أنزل القرآن
هذان الأصلان وما يتعلق بهما يقررهما القرآن في غير تردد ولا إبهام؛ ومبدأ هذين الأصلين أصل آخر لم يقرره العلم إلا ضمناً، ولو قرره لما سلمته له الفلسفة، لأنه أصعب إثباتاً حتى من ذينك الأصلين: ذلك هو أن هذا الكون قائم كله على الحق. فانه لابد من تقرير ذلك ولو لحظة حتى يمكن بعد هذا أن يقال إن كان الكون سيستمر على ذلك أو لا يستمر؛ وأنى للعلم أو الفلسفة تقرير ذلك بغير الافتراض والظن الذي لا يستند إلى برهان. لكن الله فاطر الكون قرر للإنسان الحق فيما لا يستطيع أن يثبته الإنسان، قرر في غير ما آية أن الكون قائم على الحق (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين. وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون). (خلق السموات والأرض بالحق، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، ألا هو العزيز الغفار). وقرر سبحانه أنه لا تبديل لسننه في الخلق ولا تحويل (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله)، (فهل ينظرون إلا سنة الأولين، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)، (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). وهذا المبدأ، مبدأ ثبوت الفطرة من غير تبديل، الذي أعلنه الله سبحانه للناس في القرآن، مبدأ عام يشمل جميع ميادين الفطرة، ما تطاول العلم إلى بحثه في ميدان المادة، وما لم يتطاول إلى بحثه في ميدان الاجتماع، كما هو مقتضى سياق تلك الآيات في القرآن
أما أصل انسجام الفطرة فقد قرره الله سبحانه حين قال جل وعلا: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك