للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الماضي أمام عينيه من خلل حبات العقد الغالي، ورفّت في ذهنه صورٌ حبيبة إليه، فكأنما نشرت خديجة من موت، وكأنما انطوت البيداءُ بزينب، فاجتمعتا إليه تسألان العفو عن هذا الأسير. . . ونظر محمد في أصحابه فقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها فافعلوا. .!)

وعاد أبو العاص إلى مكة، وفي نفسه صورة أكثر إشراقاً لهذه الزوجة البرة الكريمة، ولكنه عاد لا ليشكر لها ما منّت عليه، بل ليقول: (عودي إلى أبيك يا زينب!) وفاء بما أخذ عليه رسول الله من عهد بأن يطلقها تسير إليه. . . وخنقته العبرة فما استطاع أن يتمالك ولا أن يشيعها إلى طرف البادية؛ ومن أين له أن يجد في نفسه القدرة على توديع من يحب، وإنه ليعلم أنه الوداع الأخير مادام سلطان هذا الدين قائماً بين القلبين. . .!

ومضى يقول لأخيه كنانة ابن الربيع: (يا أخي، إنك لتعلم موضعها من نفسي، فما أحب أن لي بها امرأة من قريش؛ وإنك لتعلم أن لا طاقة لي بأن أفارقها، فاصحبها عني إلى طرف البادية، حيث ينتظرها رسولا محمد (ببطن يأجج)، وارفق بها في السفر، وارعها رعاية الحرمات ولو نثرت دونها كنانتك، لا يدنو منها رجل حتى تبلغ. . .!)

وافترق الزوجان فلا سبيل إلى لقاء؛ وأقام أبو العاص بمكة لا يعيش في أيامه، وأقامت زينب عند رسول الله بالمدينة معتلّة البدن واهنة القلب، لولا الإيمان والتقى يشدان من عزمها ويربطان على قلبها لأعجلها الموت ولم تظفر بلقاء. . .

ومضت سنوات وسنوات؛ وخرج أبو العاص في تجارة إلى الشام، يحمل من أموال قريش وبضاعتها فوق ما يحمل من ماله وبضاعته، وبلغ حيث أراد، فباع واشترى وتعوض، ثم قفل راجعاً بمال كثير وربح جم؛ وفيما هو على الطريق إذ لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه وأعجزهم هارباً؛ وآب المسلمون إلى المدينة فرحين بما أفاء الله عليهم، ووقف أبو العاص على رأس شاهقة يتلفّت صِفر اليدين، فما وجد إلا الصحراء تبرق بالحصى، ومد النظر إلى البعيد، فما عرف له طريقاً يسلك، وخُيّل إليه أن وراء كل ثنية فارساً معلماً يتربص به لقد فقد ماله ومال الناس، ولا سبيل إلى أن يرد الأمانات إلى أصحابها، وإنه لموشك أن يفقد حياته بعدما فقد ماله وأمانته؛ واجتمع عليه الهم فما درى أين النجاة لنفسه ولعرضه مما عرض له، إن النحس ليلاحقه في كل مسير. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>