وعادت إليه الذكرى، ورجع الزمانُ القهقري أمام عينيه، كما يجتمع التاريخ بزمانه ودنياه في لحظة ومكان لعيني محتضر؛ وتذكر من قريب تلك الحبيبة التي أحيته مرتين: حين وهبت له الشعور بالحياة في الحب، ثم حين وهبت له الحياة نفسها وافتدته عند أبيها بقلادة خديجة. . . وخُيل إليه أنه يراها، وأنه يحدثها فتستمع إليه، فهمس:(أتهبين لي الحياة ثالثة يا زينب. . .!)
وأقبل أبو العاص إلى المدينة تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله؛ فاستجارها وطلب إليها أن تعينه على رد ماله، فأجارته. . .
وأصبح الناس يسعون إلى المسجد، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر معه؛ وإذا صوت يهتف من وراء جدار:(أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. . . فهو في حمايتي وأمني!) وكانت زينب هي التي تهتف. . .
وفرغ النبي من صلاته فأقبل على الناس فقال:(أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟. . . أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم. أنه يجير على المسلمين أدناهم. . .!) ثم دخل على ابنته فحدثها وحدثته. وأكبر محمد أن يرى في ابنته هذا الوفاء لزوجها الذي فارقته لأمر الله، وامتنعت عليه لأمر الله، وقطعت ما بينه وبينها من شهوات النفس لأمر الله؛ ثم ما برحت مع كل أولئك تمنحه البر والوفاء والمعونة؛ برّ المسلمة، ووفاء الصديقة، ومعونة الإنسان. . . ونال من نفس النبي ما سمع وما علم، فأضمر في نفسه رجاء إلى الله. . .
ثم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال:(إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً؛ فإن تحسنوا وترددوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك؛ وأن أبيتم، فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به. . .) قالوا: (بل نرده عليه. . .). وقال نفر منهم:(يا أبا العاص، هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؟ فأنها أموال المشركين. . .) فقال الرجل: (بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. . .!) واستعلنت كبرياؤه وأمانته وهو بين ذلة المستجير وأسر الفقر، وأطلت نفسه المؤمنة بفطرتها من وراء ظلمات الشرك الذي يجهر به، مستكبراً أن يبيع دينه بالمال. . .!
وردوا إليه ماله، كرامة لرسول الله وإكباراً لزينب، وعاد الرجل إلى مكة بماله ومال