للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يبدو منها إلاّ جانب الحرة، وطرف النخيل، فذكرت قول محمد بن عبد الملك وقد ورد بغداد فحنّ إلى المدينة:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بسلع ولم تغلق عليّ دروب

وهل أحد بادٍ لنا وكأنه ... حصان أمام المقربات جنيب

يخب السراب الضحل بيني وبينه ... فيبدو لعيني تارة ويغيب

فإن شفائي نظرة أن نظرتها ... إلى أحُدٍ والحرتان قريب

وإني لأرعى النجم حتى كأنني ... على كل نجم في السماء رقيب

وأشتاق للبرق اليماني إن بدا ... وأزداد شوقاً أن تهب جنوب

وكان علينا أرطال من الغبار والأوساخ، فاستحينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل مدينته ونسلم عليه، ونحن على مثل هذه الحال؛ وكانت البساتين والحيطان قريبة منا، فسرنا إليها، نخب في الرمال، فلما دنونا من أحدها، سمعت غناء موقعاً على ناي، كأشجى ما سمعت من الغناء فتعجبت، ثم ذكرت أن أهل المدينة مذ كانوا أطرب الناس وأبصرهم بالغناء، وهممت بالدخول، ثم أحجمت وقلت:

لعل المغني امرأة، فلقد كان الذي سمعت صوتاً طرياً رقيقاً لا يكون إلاّ لامرأة أو غلام، ثم حانت مني التفاتة، من فرجة الباب، فإذا المغني عبد أسود كالليل، وإذا الذي حسبته ناياً ناعورة يديرها جمل، لها مثل صوت النواعير في حماه لكن صوتها أرق وأحلى، وإذا هذا السور الذي تلطمه الصحراء برمالها كما تضرب الأواذيّ صخرة الشاطئ، قد عرش على جانبه الآخر الياسمين، وأزهر عليه الفلّ، وظللته الأشجار وحنا عليه النخل، ورأينا الماء يهبط على الساقية، كأنه ذوب اللجين، ثم يجري فيها صافياً عذباً متكسراً، فجننا برؤية الماء الجاري، ولم نكن قد رأيناه منذ سبعة عشر يوماً، إلا مرة واحدة في العلا، واقتحمنا الباب، وأقبلنا على الماء نغمس فيه أيدينا، وأرجلنا، ونضرب به وجوهنا، ثم لا نشبع منه ولا ننصرف عنه، حتى أرحنا رائحة الحياة، فاستلقينا على الأرض ننظر إلى الصحراء الهائلة، التي أفلتنا منها وضرب بيننا وبينها بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب

اغتسلنا ولبسنا ثياباً بيضاء نظيفة، وتطيبنا، ثم ركبنا في السيارات إلى المدينة، فلم نقطع

<<  <  ج:
ص:  >  >>